شأنها شأن إدارة بايدن، لا تملك إدارة ترامب التى ستتولى مهامها فى ٢٠ يناير ٢٠٢٥ خطة متكاملة للشرق الأوسط أو تصورا واضحا عن السياسات والإجراءات التى تريد تطبيقها فيما خص حروبه وصراعاته وقضاياه الكثيرة.
خلال حملته الانتخابية، سجل الرئيس دونالد ترامب بعض المواقف العامة من قبيل التعبير عن رغبته فى إنهاء حرب غزة ولبنان، والحد من العمليات العسكرية التى تنفذها الولايات المتحدة فى مواقع مختلفة (من الاشتراك مع إسرائيل فى صد الهجمات الصاروخية الإيرانية إلى ضرب قواعد وقدرات الحوثيين فى اليمن)، واستكمال سحب المتبقى من القوات الأمريكية فى سوريا وتخفيض أعدادها فى العراق، وإعادة دبلوماسية واشنطن إلى دائرة تشجيع عقد اتفاقيات تطبيع (على غرار الاتفاقيات الإبراهيمية) بين إسرائيل ودول عربية كالسعودية وتوظيف «مناخات السلام» لإنجاز حل دائم لمسألة فلسطين (صفقة قرن ما).
غير أن الرئيس العائد إلى البيت الأبيض تحدث أيضا، وأكثر من مرة، عن التزامه بأمن إسرائيل وبتمكينها من «استكمال المهمة» فى غزة ولبنان ولم ينتقد على الإطلاق آلة القتل والعنف التى أطلقتها حكومة بنيامين نتنياهو على الفلسطينيين واللبنانيين ولم تخرج منه كلمة إدانة واحدة لخطط إسرائيل المتعلقة بإعادة احتلال غزة ومواصلة النشاط الاستيطانى فى الضفة الغربية واحتلال شريط حدودى واسع فى جنوب لبنان، وعن عزمه فرض عقوبات كاسحة على إيران لكى تجبر على التخلى عن برنامجها النووى وتمتنع عن «سياساتها العدوانية» فى المنطقة، وعن عدم استعداده فى إطار استراتيجية «أمريكا أولا» مواصلة إنفاق أموال دافعى الضرائب الأمريكيين على عمليات عسكرية تقوم بها بلاده وضمانات أمنية تقدمها للشرق الأوسط دون مقابل.
• • •
والشاهد أن المواقف هذه، وعلى الرغم من التناقضات بين الدفع بضرورة إنهاء الحروب وأهمية اتفاقيات التطبيع وصفقات القرن وبين إعطاء إسرائيل الضوء الأخضر لمواصلة عدوانها وتهديد إيران بعقوبات كاسحة، مكنت ترامب يوم الانتخابات (٥ نوفمبر ٢٠٢٤) من الإفادة من رفض بعض الناخبات والناخبين (قطاعات من الشباب وبعض العرب الأمريكيين) لتجاهل منافسته، مرشحة الحزب الديمقراطى كاميلا هاريس، لحروب وصراعات الشرق الأوسط وابتعادها شبه الكامل عن مجرد الحديث العلنى عنها، ومن ثم معاقبتهم لها بالتصويت للمرشح الجمهورى ترامب.
والشاهد أيضا أن مواقف ترامب وتناقضاتها أثناء الحملة الانتخابية لا تمكن بمفردها من استشراف السياسات والإجراءات التى تعتزم الإدارة الجديدة تطبيقها تجاه الشرق الأوسط، بل وتقدم، قبل أى شىء آخر، مجموعة من الدلائل الواضحة على غياب خطة أو تصور لدى الرئيس الجديد - القديم. بل إن الخطة الغائبة تلك والتصور غير الجاهز ذاك يلمحان أيضا فى مجموعة الاختيارات التى أعلنت بشأن المسئولين القادمين عن ملفات السياسة الخارجية والدفاع والأمن القومى وأمور الشرق الأوسط.
• • •
نعم اختار ترامب كسفير جديد لبلاده فى تل أبيب رجلا ينكر وجود الشعب الفلسطينى كشعب له قضية وطنية تتمثل فى حق تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة على أراضيه، رجلا يؤيد الاستيطان فى الضفة الغربية والقدس الشرقية ولا يعترف بهويتهما العربية، رجلا يذهب فى تبرير جريمة الاستيطان وجرائم المستوطنين إلى حد الإفصاح عن عزمه شراء بيت فى إحدى مستوطنات الضفة. ونعم يعبر اختيار كهذا عن قرب سياسى فاضح لشخصية محورية فى الإدارة الجديدة من اليمين واليمين المتطرف فى إسرائيل، وينذر بتوجه أمريكى قد يمكن نتنياهو وبن غفير وسموتريتش من مواصلة الحرب فى غزة ولبنان دون قيود أمريكية ومن تكثيف النشاط الاستيطانى الإجرامى بغطاء من القوة العظمى ومن تفريغ القضية الفلسطينية كقضية تقرير مصير ودولة مستقلة من كافة مضامينها.
غبر أن سفير واشنطن القادم فى تل أبيب، مايك هوكابى، ليس هو الشخصية الوحيدة التى أعلن ترامب عن اختيارها لإدارته القادمة وستتصل بالسياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. فالشخصيات الأخرى التى اختيرت لمنصب مستشار الأمن القومى ومنصب وزير الخارجية ومنصب وزير الدفاع تعطى إشارات متفاوتة تتراوح بين قناعات بأولوية التسوية السلمية للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين عبر بوابة تقرير المصير وضرورة تشجيع إسرائيل وكل جيرانها العرب على التوافق بشأن ترتيبات للأمن الجماعى والتطبيع الإقليمى وتحفيز «أغنياء الخليج» على الاضطلاع بكلفة إعادة البناء والإعمار فى المناطق التى خربتها الحروب والصراعات، وقناعات بحتمية إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط والحيلولة دون استمرار تورطها باهظ الكلفة فى حروبه وصراعاته واستثمارها الدبلوماسى غير المجدى فى مساعى التفاوض والوساطة فى عواصمه، وقناعات ثالثة تذهب باتجاه عداء صريح للعرب والإيرانيين واتهام لهم بالمسئولية الدائمة عن الحروب والإرهاب ودفع باتجاه تحالف شامل ووحيد فى المنطقة مع إسرائيل التى يتعين توكيلها بالقضاء على أعدائها وأعداء الولايات المتحدة باستخدام الأدوات العسكرية والاستخباراتية والأمنية والتكنولوجية المتفوقة.
مثل هذه المروحة الواسعة من القناعات التى ستحملها شخصيات الإدارة الجديدة فى مواقع الأمن القومى والخارجية والدفاع وارتكازها جميعا إلى مبدأ «أمريكا أولا»، وفضلا عن أن بعضها قد يحد من غلواء هوكابى والبعض الآخر قد يفاقم منه، تعنى أن إمكانية أن تصل إدارة ترامب الجديدة إلى خطة متكاملة وتصور واضح للشرق الأوسط تنتفى فعلا وعملا، على الأقل خلال عامها الأول فى البيت الأبيض ٢٠٢٥.
بل إن المروحة الواسعة هذه، ومعها شخصية ترامب فى السياسة الخارجية والتى تتسم، وكما عهدها العالم بين ٢٠١٦ و٢٠٢٠، بالاختزال والصبر المحدود والاهتمام بنجاحات سريعة وإن جزئية والتقلبات المستمرة وقبل كل ذلك رفضه لإنفاق أموال بلاده على حروب لا تفيدها فى شىء، قد ترتب تبلور سياسات وإجراءات انتقائية تجاه الشرق الأوسط ربما سعت إلى وقف الحرب فى لبنان وقبلت استمرارها فى غزة، وربما رفضت إعادة احتلال شريط حدودى فى لبنان ووافقت على إعادة احتلال كامل لغزة، وربما شجعت على اتفاقيات إبراهيمية جديدة وقدمت فى المقابل لدولة عربية كالسعودية ضمانات أمنية قوية ولإسرائيل ترتيبات أمن إقليمى تجمع بينها وبين العرب، وربما شجعت على التطبيع فى الشرق الأوسط وهى تحاصر إيران وتهددها بهجمات إسرائيلية على منشآتها النووية، وقد تعرض على إيران صفقة ما نظير إيقاف المشروع النووى بينما تواصل الحملة المشتركة مع إسرائيل على أتباع الجمهورية الإسلامية من حزب الله إلى الحوثي، وربما تتغلب وجهة نظر هوكابى على الآخرين داخل إدارة ترامب وتنسحب الولايات المتحدة تماما من القضية الفلسطينية كقضية تقرير مصير وتترك لليمين الإسرائيلى إنهاء تصفيتها وقد ترغب فى سياق التطبيع الإقليمى فى ابتداع صيغة ما لدولة فلسطينية حتما لن يقبل الترامبيون إلا أن تكون صغيرة ومنزوعة السلاح.
• • •
وإزاء كل هذه الاحتمالات لن نملك اليوم ترجيحات قاطعة أو قريبة من القطعية بشأن علو كعب بعضها على البعض الآخر، وأغلب الظن إننا لن نمتلك قدرة كتلك طوال العام الأول لإدارة ترامب فى البيت الأبيض. وإزاء جميع هذه الاحتمالات، يصبح الترويج لكون السياسات والإجراءات الأمريكية القادمة تجاه حروب وصراعات وقضايا الشرق الأوسط صارت معروفة وتنتظم فى خطة متكاملة وتصور واضح عنوانا لقراءة متعجلة ودعوة غير عقلانية لعدم الاشتباك الإيجابى من قبل العرب مع الإدارة الجديدة بادعاء أنها حسمت أمرها وليس على حكوماتنا ومجتمعاتنا المدنية سوى انتظار تصفيتها الشاملة للقضية الفلسطينية وحصارها لإيران وتمكينها لإسرائيل من توجيه ضربة ساحقة لبرنامجها النووى وحمايتها من انتقام آيات الله.
تظل الولايات المتحدة كقوة عظمى بالغة الأهمية للشرق الأوسط وللعرب، ويظل تأثيرها أخطر من أن يترك دون اشتباك إيجابى بادعاء أن الخطط اكتملت والتصورات اتضحت والأوامر على مكاتب المسئولين تنتظر التنفيذ، ويظل لزاما على مؤسسات الأمن القومى والسياسة الخارجية فى بلادنا أن تبحث عن المداخل والمساحات الممكنة لاستغلال تناقضات الرؤى واختلافات المواقف بين شخصيات الإدارة الثانية لدونالد ترامب.
هذا فضلا عن أن سياسة أمريكا الخارجية لا يصنعها البيت الأبيض بمفرده أو مستشارو ووزراء الإدارة الرئاسية دون شريك، بل تسهم بها بيروقراطية الدولة التى عادة ما تنزع إلى مقاومة ما لم تعهد وترفض التغيير السريع (مهما كرهها ترامب وسعى إلى صدام حاسم معها)، ويشارك بها الكونجرس (الذى سيظل به شيئا من التنوع وقدرة على مناوئة الإدارة مهما تعاظمت سيطرة حزب الرئيس الجمهورى عليه)، وتؤثر فيها جماعات الضغط (مهما رفع الترامبيون شعارات محاربة المصالح الفاسدة فى العاصمة واشنطن)، وتسهم فيها أيضا توجهات الرأى العام (مهما كان قاسيا درس الانفصال فيما خص حرب غزة بين سياسات إدارة بايدن وبين توجهات قطاعات واسعة من الأمريكيات والأمريكيين الرافضين للحرب).
لا تتعجلوا فى التنبؤ بسياسات ترامب القادمة، ولا تتناسوا العوامل الكثيرة داخل إدارته وفى صناعة السياسة فى الولايات المتحدة والتى تفتح أبواب احتمالات عديدة. ولا تدعو الحكومات والمجتمعات المدنية فى بلاد العرب ومصر فى صدارتها إلى تجاهل الاشتباك الإيجابى مع ترامب ورجاله، فليس لمثل هذا التوجه السلبى من فائدة تذكر وهو نقيض الفعل السياسى المسئول الذى يبحث عن كل فرص الاشتباك ومساحات التأثير.