فى مساء خميس من عام 1973، تجمّع الجمهور العربى فى المقاهى والبيوت حول الراديو، كانوا ينتظرون صوت يأتى من القاهرة اعتادوا أن يؤانسهم و«يسلطنهم» منذ اعتمادها كمطربة فى الإذاعة منتصف الثلاثينيات. فى ذلك اليوم، وقفت «الست» على المسرح، تمسك بمنديلها الأبيض كالعادة، تصدح بصوتها «القلب يعشق كل جميل».. وكأنها تودع أحباءها فى اللقاء الأخير الذى امتد لنحو 6 عقود. خمسون عامًا على رحيلها، وما زال صوتها يُشعل فى الأجيال سؤالاً: كيف تجاوزت زمانها واستمرت مع كل جيل؟
إجابة ذلك السؤال صعبة المنال، لكن يمكن مناقشة تطور أم كلثوم فى كل عقد كيف ساهم فى تفردها عن غيرها من المطربات وجعل إنتاجها ممتع للأجيال اللاحقة.
كان للإنشاد الدينى وحفظ القرآن الكريم دور فى تنمية مهارات أم كلثوم الغنائية، فمنذ نعومة أظافرها فى قرية طماى الزهايرة بمحافظة الدقهلية، عكف والدها الذى كان إمام مسجد، على تعليمها الإنشاد الدينى لكن تلك الفتاة الصغيرة لم تكتفِ بترديد الأناشيد، بل طوعته فى الفن الذى قدمته.
هوية
تركت أم كلثوم الإنشاد بالموالد والمناسبات الدينية فى القرى، واتجهت إلى العاصمة، ومهد لها الملحن أبو العلا محمد الطريق، وبدأت أم كلثوم انطلاقتها الفنية بالقاهرة فى عشرينيات القرن الماضى. خاضت تجربة الغناء ونجحت فى نيل إعجاب كل من سمعها ولم تنجرف مع التيار الخليع السائد حينها، يفسر المؤرخ حسين فوزى ذلك بأنها واجهت تلك الثقافة بأسلوب غنائى مصرى عربى متطور.
كانت تدرك أم كلثوم أنها تؤسس لمرحلة ستدفعها للقمة، فتعاقدت مع الإذاعة المصرية فى عام 1937، وأصبح لها موعد لبث حفلاتها الشهرية، وبعدما كانت مقتصرة على جمهور الحفلات تسللت إلى كل بيت فى ربوع مصر، وانطلقت فى حفلاتها خارج داخل وخارج المحروسة.
بالنسبة لكوكب الشرق، فالأمر لم يكن مقتصرًا على غناء كلمات جميلة وألحان عذبة، أم كلثوم صنعت لها هيبة فى صورتها وحضورها وصوتها يمكن أن يشعر بهم المستمع بعد عقود من رحيلها، تلك الهيبة انقسمت إلى عوامل عدة؛ فكوكب الشرق كانت نادرة الحوارات الصحفية والإذاعية، وأوضحت السبب فى حوار مع الإذاعى وجدى الحكيم حينما قالت له إن الجمهور يحب صوت أم كلثوم. العامل الثانى أن أم كلثوم فى أول عقدين من غنائها صنعت لنفسها «ستايل» بالفستان الطويل المحتشم الذى يظهر وقارها مع المنديل، ولو كانت فى عصرنا هذا لسيطرت على الترند فى كل الفصول.
العامل الأخير، أن أم كلثوم امتلكت موهبة صوتية استثنائية تمثلت فى صوتها الجهورى العميق الذى يصنّف ضمن نطاق الكونترالتو (الصوت الأنثوى الخشن)، مع قدرة مدهشة على الامتداد إلى منطقة الميتزو سوبرانو (الصوت النسائى المتوسط الحدة). ما دفع موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب للتغزل فى موهبتها، فى مقال بمجلة الكواكب وقال إنها تتمتع بكل ما يجب أن يتوافر فى المغنى، وأنها تظل تشدو وتشدو متنقلة من «مقام» إلى «مقام» فى سهولة ويسر.
ذكاء الانتقاء
عن ذكاء كوكب الشرق فى اختيار الذين تتعاون معهم، قال الموسيقار محمد عبدالوهاب فى المقالة ذاتها، إنها ساهمت فى إحداث طفرة فنية بسبب حسن تدبيرها، وذلك لأنها تتمتع بعقلية واعية، استطاعت أن تحتضن الأستاذ الشاعر أحمد رامى، وأن تجعله يتعاون معها، وأن يجود بالمعانى الرائعة التى تؤديها أم كلثوم أحسن أداء.
ومن ناحية أخرى، فسر الكاتب رجائى النقاش فى كتابه لغز أم كلثوم، أحد أسباب نجاح أم كلثوم بسعيها للقفز نحو الأمام وأنها لم تكتفِ بالتطور الهادئ، وإنما كانت حريصة على بذل أقصى جهدها فى أى عمل تؤديه، فتجرى بروفة أكثر من ثلاثين مرة لأى أغنية قبل أن تقدمها للجمهور، ربما ذلك ما جعل أغانيها تخرج بهذا الكمال وتستمر مع كل جيل.
ولعلّ أبرز ما يؤيد حديث النقاش، أنها كانت حريصة على تقديم ما يناسب العصر، فأطربت الجمهور بأغنية «أراك عصى الدمع» لأبو فراس الحمدانى، ثلاث مرات، بألحان مختلفة، وفى مراحل متباعدة، الأولى لحنها أولاً عبده الحامولى (1926)، ثمّ زكريا أحمد منتصف الأربعينيات، والأخيرة لعرب قصائدها رياض السنباطى (1964).
المتلقى لأم كلثوم سيجد نفسه حائرا مهما كان ذائقته الفنية، فالست غنت نحو 283 أغنية تتنوع بين العامى والفصحى، ولم تحصر نفسها فى الغناء بمقام أو اثنين (والمقام الموسيقى هو مجموعة من الدرجات الموسيقية التى يتم صياغتها بأبعاد محددة لتشكيل اللحن) فعلى سبيل المثال لا الحصر، تمكنت فى (هو صحيح) من الغناء بمقام الصبا بسهولة، ومقام الكرد فى أغنية انت عمرى، وغنت بمقام الحجاز (أنا فى انتظارك).
أم كلثوم الافتراضية
بعد نحو 50 عاما من رحيلها وما زالت تشغل الأجيال، إذ أعلن الملحن عمرو مصطفى، شروعه فى استخدام صوتها من خلال تقنية الذكاء الاصطناعى، فى مشروعه الذى أطلق عليه «إحياء التراث» وبالفعل نشر مقطع من أغنية تُغنّيها أم كلثوم افتراضياً بعد تحليل صوتها من تسجيلاتها الأصلية، لكن تجربته باءت بالفشل بسبب النزاع حول حقوق الملكية لأغنيات وصوت الست.
ولم تكن تلك التجربة الوحيدة التى استخدمت فيها التكنولوجيا لإعادة أحياء أم كلثوم فى القرن الواحد والعشرين، ففى العامين الماضيين، دشنت حفلات بتقنية الهولوجرام فى مصر والإمارات والمغرب، جذبت الآلاف من المغرمين بصوت الست.