د. محمد أبو الغار يكتب: شهر في مدينة سيينا الإيطالية.. كتاب عظيم وممتع - بوابة الشروق
الجمعة 20 سبتمبر 2024 11:35 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

د. محمد أبو الغار يكتب: شهر في مدينة سيينا الإيطالية.. كتاب عظيم وممتع

نقلا عن المصري اليوم
نشر في: الثلاثاء 3 سبتمبر 2024 - 10:43 ص | آخر تحديث: الثلاثاء 3 سبتمبر 2024 - 10:54 ص

هشام مطر، كاتب عالمى ليبى الأصل، وُلد عام ١٩٧٠ وحصل على جوائز عالمية عن كتبه. هو يكتب بالإنجليزية. خرج من ليبيا وعمره ١٩ عامًا إلى لندن للدراسة الجامعية فى عهد القذافى، واختلف أبوه مع القذافى وترك ليبيا، واستطاع القذافى أن يخطف الأب ويعيده إلى ليبيا حيث مات فى سجون العقيد. بعد الثورة الليبية عاد هشام إلى ليبيا فى رحلة مع زوجته وكتب كتابًا رائعًا عن الرحلة وعن أحوال ليبيا وأوضاعها الكارثية.

حصل هشام على جائزة البوليتزر، وتُرجمت بعض أعماله إلى العربية، ومنها هذا الكتاب الذى نشرته دار الشروق فى طبعة فاخرة وصور ملونة للوحات فنية تمثل حكاية الكتاب.

منذ سنوات، أُعجب المؤلف باللوحات التى أبدعها فنانو مدينة سيينا، وأصبح حلمه زيارتها، وذهب مع زوجته ديانا إلى هناك. ويصف هشام المدينة التى عشقها والفن الذى أنتجته المدينة من القرن الحادى عشر إلى الرابع عشر ميلاديًّا، ويذكر كيف بهره هذا الفن غير المشهور خلال زيارته لمتاحف لندن. وأدمن الوقوف أمام لوحة دوتشى دى بونسيانا عن الرجل الضرير الذى تم شفاؤه بمعجزة من السيد المسيح.

طوال خمسة وعشرين عامًا استمر هشام يبحث فى المتاحف الصغيرة عن لوحات دوتشى وأعمال هذه المرحلة الفنية عمومًا، حيث كانت مدينة سيينا بالنسبة له مثل مكة أو روما أو القدس مصدرًا للإلهام. يصف هشام المدينة العتيقة التى تمنع فيها دخول السيارات، وشوارعها ضيقة وملتوية وأرضها من الحجارة السوداء.

استأجر شقة فى بيت قديم سقوفها مزخرفة. يقول هذه المدينة علمتنا أننا فى عصرنا أصبحنا نقلل من شأن الفن المعمارى بتصاميم حديثة تناسب العمل ولا نفكر أن الأبنية مساحات جميلة تتشكل فيها حياة الإنسان. وسار هشام وديانا فى المدينة القديمة بشغف، وتجولا فى أكاديمية الموسيقى، وتأملا الزخارف الرائعة. ووصلا إلى قصر الشعب. ويحكى أن إيطاليا كانت دويلات صغيرة تحكمها مجموعة من الأرستقراط مع الكنيسة الكاثوليكية، باستثناء مدينة سيينا، التى أنشأت عام ١١٢٥ جمهورية ديمقراطية استمرت ٤٠٠ سنة شهدت ازدهارًا اقتصاديًّا وحيوية فى الفنون ونجاحًا زراعيًّا وتجاريًّا وأصبحت مركزًا مصرفيًّا يقرض البابا فى الكنيسة الكاثوليكية، وكانت حكومتها مدنية فصلت فيها نظام الدولة عن الكنيسة، وكان قصر الشعب هو مقر الحكم، وفيه غرفة التسعة وهم مجلس الحكم، وعُهد إلى الفنان لورنزينى بعمل جداريات القاعة، التى استغرقت منه ١٦ شهرًا. وفى الغرفة تم وضع الجدارية الشهيرة رمز الحكومة الصالحة التى كانت ترنيمًا للعدالة، والتى كانت واضحة فى تأكيد مدنية الدولة وفصل نظام الحكم المدنى تمامًا عن الدين. وفوق الجدارية لوحة الحكم والإيمان والإحسان والأمل وتحتها من ناحية العدالة والسلام والمثابرة والحصافة وفى الناحية الأخرى العدالة والشهامة وتتكرر العدالة لتأكيد أهميتها. فى أسفل الصورة الشعب والحكام والجنود والسجناء. وفى الصورة رجل يبدو أجنبيًّا فى ملبسه وأغمق لونًا، وربما يكون من أصول أندلسية، وبه دماء عربية، فيما يؤكد المساواة بين البشر ويؤكد تأكيدهم لحقوق الإنسان بغض النظر عن الجنس أو اللون.

ويتذكر فى روما حين شاهد لوحة الفنان كارافاجو الشهيرة «داوود وجالوت»، وبينما هو مستلقٍ على الحشيش وزوجته تضع رأسها على صدره فكر فى داوود وأمامه رأس عدوه جالوت، ويقول إن جالوت ربما يرى أكثر مما نرى، ويقول إنه ربما هذا هو السبب أن الطغاة يفضلون سجن أعدائهم وإبقاءهم على قيد الحياة.

ذهب إلى الصالة ليرى جداريتين تغطيان طول الغرفة كاملًا بامتداد ١٤.٥ متر، (آثار الحكومة الصالحة)، وفيها كل شىء عامر، والناس فى سعادة، وتُظهر الجدارية المقابلة آثار الحكومة الفاسدة، والطغيان مسيطرًا، والعدالة محبوسة، والطغيان المرسوم على أشكال غريبة ذكّرته بالجرافيتى المرسوم على جدران طرابلس ساخرة من الديكتاتور القذافى المهزوم. ويظهر الطغيان حقيرًا فى أحوال العينين والوجه ذى القرنين والشعر وعبوس دائم يحكم بقبضته على أسنان دراكولية. لقد اعتبر حكام سيينا على مر القرون أن رفاهية المواطنين وتوزيع الضرائب وإسعاد الناس هو طريقهم. وفى الجانب الآخر من العالم خارج سيينا يقع أعداء البشرية الرئيسيون، وهم الجشع والغرور والغطرسة، بجانب القسوة والخداع والاحتيال، والتى تنتهى بالغضب والانقسام والحرب.

وعلى النقيض من جداريتى الحكومة الصالحة وآثارها، ترى آثار الحكومة الفاسدة، وهى صلبة وفارغة وعارية. العمل الذى يبدو مزدهرًا هو عمل صانعى الدروع، البيوت مهجورة، وبعضها تهدم، وهناك قتال دائم، والعدالة تبدو مكبلة بالأصفاد، ومجردة من ثيابها.

وجلس فى الصباح أمام الكنيسة، وبجواره سيدة من نيجيريا، وحاولت أن تحدثه بالإيطالية، واكتشفت أنه لا يعرفها، فشرحت له أنها هنا منذ ٢٣ عامًا، والآن تستحق الحصول على جواز سفر، وسألها: ماذا سوف تفعلين به؟، فقالت: سأزور بلادى، ثم كررت: أجل، بلادى.

وشعر أن مدينة سيينا حميمة بالنسبة له كقلادة يمكن أن يضعها حول عنقه. وأثناء سيره قابل رجلًا يتحدث العربية مع طفليه، فقام بتحيته، والرجل يعيش فى سيينا منذ ٣٠ عامًا، قادمًا من الأردن. وأكمل هشام مشيه، ودخل منطقة المقابر، وكلها معتنى بها، وعلى كل مقبرة صورة المتوفى فى شبابه، وفى سن متأخرة. جلس يفكر ويقول إنه يحب الجلوس فى المقابر. وبينما يستمع إلى الموسيقى من تليفونه، فوجئ بتسجيل قديم لأهالى ليبيين اختفوا فى عهد القذافى والأهل يحكون المأساة.

وذهب لمقابلة الأردنى الذى عزمه على العشاء، وشرح له أن المدينة تنقسم إلى ١٧ منطقة، كل منطقة لها عمدة وهيئة إدارية وموازنة بلدية، وتتنافس مرتين فى العام فى سباق خيل وحاملى أعلام كبيرة عنيف، ولما سأل عن سبب العنف قالوا ما معناه إنهم يفرغون كل طاقة العنف والشر فى هاذين اليومين، ولذا فالمدينة هادئة ليست فيها سرقات أو جرائم. وفى عام ١٣٤٨ انتشر الطاعون فى أوروبا والشرق الأوسط، وقضى على الملايين. لاذ أهل سيينا بالمدينة والكنائس، ودخل اللصوص، ونهبوا البيوت، ودمروا المدينة، وأصبحت مثل لوحة الحكومة الفاسدة وتأثيرها.

ويشبه الوفيات دون دفن أيام الطاعون بما حدث فى سجن أبوسليم فى ليبيا عام ١٩٩٦ حين أعدم القذافى ١٢٧٠ سجينًا سياسيًّا فى يوم واحد، وتُركوا فى العراء بدون دفن. ومات الفنان العظيم لورنزينى بالطاعون، وتغير الإنسان فى سيينا، ونشطت الحماسة الدينية، وانتهى عهد الحكام التسعة والديمقراطية، وأصبح رجال الدين هم المسؤولين عن الحكم وعن الفن، وحازوا قدرًا كبيرًا من المال، وتغيرت أحوال سيينا.

يقول هشام إنه وجد شيئًا فى سيينا لا يملك وصفًا له.

قوم يا مصرى.. مصر دايمًا بتناديك.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك