وحيد الطويلة، نسج جميع أعماله—ثلاث مجموعات قصصية وثماني روايات—على إيقاع صوت النَّرد، واصطكاك الملاعق بأكواب الشاي، وسط أجواء معبقة بدخان الشيشة وضجيج رواد المقاهي. هو في الحقيقة شاعرٌ تاه عن درب القصيدة، حتى وإن لم يخطّ واحدة، لكنه وجد في الرواية وطنًا لصوته، فكتب الحكايات بحساسية وشاعرية تنتمي إلى روح الشاعر الذي يسكنه، ليصبح بذلك واحدًا من أبرز الأصوات السردية في الأدب العربي المعاصر.
تتميز أعمال الطويلة بقدرتها على النفاذ إلى عمق التجربة الإنسانية، خاصة في البيئات المهمشة المليئة بالتناقضات والصراعات الخفية. بين سطور كتاباته، يتجلى بوضوح شغفه برصد الشخصيات التي تعيش على هامش المجتمع، تلك التي تحمل آثار القمع والقهر، وتسعى للنجاة بطرقها الخاصة.
منذ روايته الأولى ألعاب الهوى (2003)، التي كشف من خلالها الأبعاد النفسية لعلاقة الرجل بالمرأة في تلك البيئات القاسية، وحتى سنوات النمش (2025)، التي تشكّل شهادة أدبية على قسوة الحياة في القرى النائية، ظلّ الطويلة وفيًّا لمشروعه السردي في رصد الهامشيين وصراعهم اليومي من أجل البقاء.
بهذا، تواصل سنوات النمش مشروع وحيد الطويلة في توثيق القلق الإنساني، وتتبع المصائر العالقة بين القهر والرغبة في التمرد، وبين القواعد الصارمة ومحاولات الانفلات الضيقة. وإذا كانت أعماله السابقة قد سلطت الضوء على المهمشين في المدن والمنافي، فإن هذه الرواية تنقل التهميش إلى قلب المجتمع ذاته، حيث يبدأ القمع من داخل العائلة قبل أن تعكسه الظروف الخارجية.
حكاية النمش بين الخوف والتمرد:
تعتمد الرواية على تجربة ذاتية للراوي، مستندةً إلى سرد مشحون بالعاطفة والرمزية، لكنها تتجاوز حدود الفردي لتكشف رؤية نقدية للمجتمع القروي، حيث تتشابك السلطة الأبوية مع الخرافات والمعتقدات الاجتماعية القامعة.
يمنح اختيار عنوان سنوات النمش الرواية بُعدًا مزدوجًا؛ فمن جهة، يعكس التحولات الزمنية التي يمر بها الراوي، ومن جهة أخرى، يصبح النمش رمزًا للاختلاف، ذلك الاختلاف الذي يجعله موضع تساؤل ورفض في مجتمعه. في هذا السياق، لا يُعدّ النمش مجرد علامة جسدية، بل يتحوّل إلى استعارة للوصمة الاجتماعية التي قد تلاحق الفرد بسبب تميزه عن الآخرين.
يولد الراوي في قرية نائية بشمال مصر، حيث تنافس الذئاب البشر، وحيث يسكن الليل بالخوف من اللصوص والمطاريد. منذ طفولته، يجد نفسه تحت سطوة والده، الرجل المخيف الذي لا يحتاج إلى الضرب ليثير الرهبة في ابنه، بل تكفي نظرة حادة أو جملة واحدة منه ليصبح العالم أكثر ضيقًا وظلمة.
لكن الطفل لا يعاني فقط من القمع الأبوي، بل من نظرات المجتمع أيضًا. فوجهه المليء بالنمش يجعله موضع تساؤل وسخرية. في قرية لم تعتد رؤية هذه العلامات، يبدأ الناس في البحث عن تفسير لها، ويربطونها بملوحة الماء في الكويت، حيث يعيش صبي آخر يحمل السمات نفسها، والأهم هو تقديم العلاج والحل، وهو ألا يخرج في الشمس حتى لا يزداد هذا النمش. هنا، يتجلى كيف يتم التعامل مع كل ما هو مختلف في القرى والمناطق الشعبية؛ فلا يُنظر إليه كصفة طبيعية، بل يُبحث له عن تفسير، غالبًا من خلال الخرافات والمعتقدات الشعبية.
المرأة في سنوات النمش: صوت مقموع لكنه لا يصمت
إلى جانب معاناة الراوي، يكشف النمش عن وجه آخر للقهر؛ قهر المرأة. تبرز في هذا السياق شخصية فريال، شاعرة العائلة، عمة الراوي وأخت الأب المتسلط، المرأة التي ترفض أن تكون مجرد ظل في مجتمع ذكوري. رغم القيود التي تحاصرها، ترفع صوتها عاليًا: "خُلقت النساء للرجال، والرجال للنساء."
تقول ذلك بقوة أمام أطفال العائلة، لكنها تختفي تمامًا إن وصل طرف حديثها إلى ذكور العائلة، إذ تدرك جيدًا أن العقاب سيكون قاسيًا: "سوف يربطونها مع البهائم في الزريبة."
فريال ليست مجرد شخصية ثانوية، بل تمثل روح التمرد الأنثوي في الرواية. في مجتمع لا يسمح للمرأة إلا بالصمت والرضوخ، ترفض أن تستسلم للطلاق أو الترمل، بل تبحث عن رجل بطريقتها الخاصة، في تحدٍّ صارخ لكل القواعد، مما يجعلها شخصية ثورية بامتياز.
لكن للتمرد ثمنًا، فهي تعاني الضرب والإهانة من زوجها اللص، الذي لا يراها سوى تابع في حياته. وحين تنفصل عنه، تصرّ على الزواج مجددًا رغم اعتراض أهلها، وكأنها تقول إن الحياة لا يجب أن تتوقف عند خسارة رجل.
تعكس حكاية فريال مأساة النساء في المجتمعات المتحجرة، حيث تتحكم القوانين الذكورية بمصيرهن، ويُنظر إليهن كعبء إذا لم يكنّ تحت وصاية رجل.
القرية: عالم من القهر والعنف والخرافة
لا تتناول الرواية معاناة فرد فحسب، بل ترسم صورة لقرية بأكملها، حيث القوانين غير المكتوبة أقوى من أي سلطة رسمية. في هذا العالم، يحكم الفقر والجهل تفاصيل الحياة اليومية، ويدفعان الناس إلى اللجوء إلى التفسيرات الغيبية لكل شيء، حتى لون البشرة أو انتشار النمش. التعليم ليس وسيلة للتحرر، بل أداة أخرى للقمع، يُعاقب الأطفال على الدرجات المتدنية بالعصا، ويُطرد الفقراء من المدرسة إذا لم يتمكنوا من دفع "تعويضات" للمعلمين.
سنوات النمش: سرد بصري غارق في التفاصيل
ما يجعل سنوات النمش رواية مميزة هو أسلوب وحيد الطويلة، الذي يمزج بين اللغة الشعرية والواقعية القاسية من خلال بنية سردية تعتمد على جمل قصيرة وسرد متدفق يتناسب مع إيقاع الحكي، مع وصف دقيق يجعل القارئ يشعر بأنه داخل المشهد، سواء كان ذلك في المدرسة حيث الجلابيب المرقعة، أو في القرية حيث الليل مليء بالخوف، أو حتى في اللحظات الحميمة التي يُستعاد فيها الماضي بحنين مشوب بالألم.
كما يوظف الطويلة تقنيات سردية متنوعة، مثل التكرار لإبراز المعاناة، كما في تكرار عبارة "حذار أن تخرج"، مما يعكس القيد المفروض على الراوي. كما يوظف التناص مع القصص الدينية والأساطير الشعبية، حيث تحضر قصة يوسف وزليخة ليس فقط كحكاية دينية، بل كإطار يفسر من خلاله أهل القرية علاقتهم بالحب والخطيئة والمصير. كما استخدم التقنيات السينمائية، ويظهر ذلك في طريقة القطع المفاجئ بين المشاهد، مما يعزز الإيقاع السريع للرواية.
في النهاية، تكشف الرواية عن أن القهر ليس مجرد فعل فردي، بل نظام متوارث. القهر يُورَّث عبر الأجيال، الأب الذي يقمع ابنه، سبق أن تعرض للقمع في طفولته، والمرأة التي تُمنع من اختيار حياتها، هي نفسها كانت فتاة صغيرة نشأت على الطاعة والصمت. في هذا العالم، يبدو أن النمش ليس فقط علامة جسدية، بل هو رمز لكل اختلاف يُقابل بالرفض، ولكل حرية تُكبح قبل أن تولد.
وأخيرًا، تقدم الرواية تجربة إنسانية وتطرح أسئلة جوهرية عن السلطة، والخوف، والهوية، وتجعل القارئ يتأمل: هل يمكن للفرد أن يكسر دوائر القهر التي وُلد فيها، أم أن النمش، بكل رمزيته، سيبقى محفورًا في الذاكرة والجلد؟