د. فيصل عادل الوزان يكتب: رواية داروينية اجتماعية كويتية! - بوابة الشروق
السبت 5 أكتوبر 2024 2:27 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

د. فيصل عادل الوزان يكتب: رواية داروينية اجتماعية كويتية!


نشر في: الجمعة 4 أكتوبر 2024 - 6:41 م | آخر تحديث: الجمعة 4 أكتوبر 2024 - 6:41 م

كثيرٌ منا يتذكر أحد أشهر مشاهد المسلسل الكويتى الكلاسيكى «درب الزلق» (1977م) الذى يصوِّر بيع حسين بن عاقول (الفنان عبدالحسين عبدالرضا) للحوم الكلاب على أنها لحوم أغنام معلبة. هل كانت هذه الفكرة من خيال مؤلف المسلسل (عبدالأمير التركى) أم أنها مستمدة من الواقع الكويتى ومن روايات شفهية؟ قبل سنوات نُشِرَت وثائق المعتمد البريطانى (جيرالد دى جورى) لعام 1937م التى يسجل فيها حادثة غريبة وقعت فى الكويت، وهى إلقاء القبض على مُقيمٍ هندى، اسمه عبدالمطلب، بتهمة بيع لحوم قطط فى مطعمه الذى يفترض به تقديم لحم الضأن المشوى. وعلى سبيل تأكيد ما جاء فى وثائق دى جورى أورد المؤرخ والصحفى الكويتى (عبدالله الحاتم) فى كتابه «من هنا بدأت الكويت» (1962م) القصة ذاتها قبل أن تنشر الوثائق البريطانية مع بعض الفوارق التى تستحق الدراسة. إذن فمؤلف مسلسل «درب الزلق» قد اعتمد بالفعل على المخيال الشعبى واستثمره فى مشهد كوميدى خالد. أما الروائى عبدالوهاب الحمادى فقد طوّر هذه القصة؛ مخرجًا إياها من إطار الوقائع الجنائية إلى عالم السرد الأدبى، فجعلها خلفية محركةً لأحداث قصة أكبر بطلها المجتمع الكويتى فى النصف الثانى من ثلاثينيات القرن العشرين، أتحدث عن روايته الأخيرة التى نشرتها دار الشروق فى القاهرة، وعنوانها: «سنة القطط السمان». أدركتُ بعد انتهاء قراءة الرواية كيف زاوج الحمادى بين حادثة بيع لحم القطط، كقضية جنائية، والمفهوم السياسى والإعلامى الأمريكى: «القطط السمان»، الذى يراد منه نبذ الفاسدين سياسيًا. ثم إلحاقه بهذا المصطلح كلمة «سَنَة» لتتسق مع طريقة العرب فى التأريخ الوقائعى الذى يحل محل الأرقام، مثل سنة الطاعون وسنة الرحمة وسنة الطفحة وسنة الهيلق، وعام الفيل ... إلخ. هى رواية واقعية المذهب، تاريخية الشكل، ذات غرض إسقاطى على الوقت الحاضر. وهى مروية من خلال تقنيتى سرد، الأولى: بأسلوب الراوى المخاطِب نادر الاستخدام فى الروايات، وتختص بفصول البطل الرئيس فى الرواية «مساعد» الذى يقودنا لمتابعة أفعاله وأقواله وأفكاره. أما التقنية الثانية فهى الراوى العليم. وتتخلل فصول التقنية الثانية حوارات بين الشخصيات المتنوعة، أدباء وتجار وشيوخ ومعتمد بريطانى وبسطاء الناس، إضافة إلى بعض النساء اللاتى كن بطبيعة الحال نادرات الظهور فى الحياة الاجتماعية العامة آنذاك. اهتم الحمادى بتفاصيل تاريخية بالغة الدقة، تخص المضمون والسياق والظروف، ولا شك أنه بذل جهدا فى قراءة الوثائق البريطانية وكتب تاريخ الكويت ومجتمعه القديم وعاداته ولباسه وتاريخ وصول الأجهزة والآلات الحديثة إلى البلاد، والأعمال الخاصة بتحليل العلاقة بين الشيوخ والتجار وعامة الشعب فى زمن ما قبل النفط. وبحكم تخصصى فى هذا المجال فإن دقته لافتة. وحين انتهيت من قراءتها سعدت بأن هذا العمل يحترم البحث التاريخى وتفاصيله ويحسن استخدامه فى الرواية بعد إعادة إنتاجه. ولقد أثارنى أمر آخر فى الرواية، وهو استخدامه للراوى المخاطِب، الأمر الذى يستحق التعليق.
توظيف الروائى للسارد المخاطِب Second-person narrative: لا شك أن تقنية السرد الأكثر انتشارا فى الروايات هى تقنية الراوى العليم Third-person narrative، يليها الراوى المتكلم First-person narrative كما فى رواية إمبرتو إيكو «اسم الوردة»، ورواية يوسف زيدان «عزازيل».
أما التقنية الأندر استخدامًا، ولعلها الأصعب فهى السارد المخاطِب (أنتَ) Second-person narrative. يلجأ الراوى إلى هذه التقنية أحيانا لرغبته فى التركيز الشديد على شخصية البطل ومحرك الأحداث، ووضعه فى موقع المساءلة والمحاسبة وربما التشكيك، وهى بمثابة Close-up فى لغة التصوير السينمائى. إضافة إلى ذلك، ستكون هذه التقنية مفيدة لتقريب القراء من مشاعر البطل وتجربته وأفكاره، وإعطائهم فرصة أكبر للانغماس العميق فى الشخصية. ولن نبالغ إن قلنا إنه مع استخدام هذه التقنية تنتقل القوة إلى القارئ الذى يصبح بدوره أحد شخصيات الرواية. سيتاح للقراء أيضا الشعور بأوصاف المناظر والروائح والأصوات. إن عدم اعتياد القراء على هذه التقنية يأتى فى مصلحة الرواية – بشرط أن تكتب بجودة عالية - لأن القراء سيجدونها تجربة جديدة عليهم، ويصعب عليهم نسيان الرواية لأنهم صاروا جزءا منها. لقد استخدمت هذه التقنية فى عدد من الروايات العالمية، مثل رواية «لو أن مسافرا فى ليلة شتاء» لـ إيتالو كالفينو (1979م)، ورواية Bright Lights, Big City (1984م) لـ Jay McInerney، وغيرها، أما عربيا فنجدها مستخدمة جزئيا فى رواية نجيب محفوظ «اللص والكلاب»، ورواية سعود السنعوسى «فئران أمى حصة»، ورواية خرائط لـ نور الدين فارح. ومن أشهر الكتب النقدية التى درست هذا الأسلوب السردى كتاب بعنوان: «أنت.. ضمير المخاطب فى السرد العربى» تأليف الدكتور خيرى دومة الأستاذ فى جامعة القاهرة. وهو يؤكد أن أسلوب السارد المخاطب أسلوب عربى أصيل وجده مستخدما عند أبى حيان التوحيدى، ووظفه طه حسين ويوسف إدريس ونجيب محفوظ. وفيما يخص استخدام عبدالوهاب الحمادى، مؤلف رواية «سنة القطط السمان»، للراوى المخاطِب عند تناوله شخصية البطل (مساعد)، فإنه ربما اختارها ليعكس إحدى أهم صفات شخصية البطل، وهى الخجل والشعور بالذنب والخوف والاستعداد للتقريع وتلقى اللوم، فقد خسر أمواله الموروثة من أبيه، وتجارته، ووظيفته الأولى، وتعرضه للضرب والتزامه السكوت فى معظم أجزاء الرواية، بل إنه لم يغادر أسوار المدينة رغم توقه للسفر. وثمة تأويل آخر لاستخدام عبدالوهاب الحمادى لتقنية الراوى المخاطِب، وهو كون الرواية تجنح إلى الوصف الشديد لمعالم مدينة الكويت القديمة وشكلها الواقعى بحسب ما اطلع عليه فى الكتب والأفلام التسجيلية والصور القديمة، وبالتالى كان بحاجة إلى تكثيف شعور القارئ ومحاولة إعمال حواسه تخيليا مثل محاولة إسماعه أصوات الباعة فى السوق، وروائح النفايات وأسانة بقع المياه الراكدة فى الأزقة، وصوت الأمواج، وتقاطر حبات المطر، والخوض فى الطين، والصفع، وإطلاق الرصاص، وهدير محركات الطائرة والسيارة، وغيرها من أمور تحتاج إلى ما يشبه التأثيرات الصوتية فى لغة السينما أيضا. لا يرغب الحمادى فى إعطاء الشخصية الرئيسية «مساعد» فرصة لخداع القارئ بادعاءته لو أنه استخدم الراوى المتكلم، وكذلك لا يرغب المؤلف فى استخدام أسلوب التقرير لو استخدم الراوى العليم. أما عند استخدامه للراوى المخاطب فليس أمام القارئ سوى تصديق ما يحدث. ولعل اختيار الحمادى لهذه التقنية يجنبه اتهاما بأنه هو من يمثل البطل بتجربته الخاصة المنعكسة على شخصية الرواية، خاصة أنه يتناول موضوعا حساسا من الناحية السياسية والاجتماعية فى الكويت، ولها امتداد وآثار حتى يومنا هذا. إننى أنتمى إلى المدرسة التى تؤمن بضرورة وجود رسالة فى العمل الفنى، إلى جانب وجوب أن تكون مسلية فى نفس الوقت. يحاول الحمادى فيما يبدو أن يحلل السلوك المجتمعى السياسى للكويتيين ويوضح أن ما نراه اليوم هو وليد الأمس، سلوك متوارث وأدوار ثابتة لا يتغير فيها غير المؤدين. هل أجرؤ على القول أنها رواية داروينية اجتماعية كويتية؟ نحن أمام رواية من مستوى راق، لامست بعض زواياها وأجزائها فئة أدبية يصعب إتقانها، وهى فئة الكوميديا السوداء. فى رأيى الشخصى لقد تفوق الحمادى على نفسه وأنجز رواية ناضجة تستحق القراءة العميقة.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك