«التمر».. قصة مصرية ما بين مائدة رمضان والتراث البعيد والمستقبل العظيم - بوابة الشروق
الجمعة 20 سبتمبر 2024 6:44 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«التمر».. قصة مصرية ما بين مائدة رمضان والتراث البعيد والمستقبل العظيم

القاهرة - أ ش أ
نشر في: الأربعاء 8 مايو 2019 - 11:38 ص | آخر تحديث: الأربعاء 8 مايو 2019 - 11:38 ص

بقدر أهمية التمر لمائدة الإفطار الرمضانية والثقافة الغذائية في هذا الشهر الفضيل فهو يشكل قصة مصرية ما بين التراث التليد والطموح لمستقبل عظيم وغد أفضل.

والتمر غذاء رمضاني بامتياز حيث يتأسى المسلمون بسنة نبيهم المصطفى (ص) ليبدأوا به إفطارهم ومن القواعد الرمضانية المتوارثة لدى الكثير من الصائمين بدء الافطار بتناول الحساء بعد التمر والماء فيما تعد الطريقة الأمثل لأمعاء الصائم الخاوية لأن البدء بسوائل يريح المعدة بعد ساعات طويلة من الصيام ويجهزها للأطباق الرئيسة.

ولئن أفادت بيانات لمنظمة التنمية الصناعية العالمية "اليونيدو" بأن مصر تحتل المركز التاسع في قائمة أكثر دول العالم تصديرا للتمور فإنها تحتل المركز الأول بقائمة الدول المنتجة بنسبة تصل إلى 18% من مجموع الإنتاج العالمي.

وتتحرك مصر بقوة على صعيد صادرات التمور بعد أن أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسي في نهاية العام الماضي عن إنشاء أكبر مزرعة للتمور في العالم تضم 2.5 مليون نخلة لأفخر أنواع التمور في إطار توجه الدولة لتعزيز الصناعات الغذائية ودعم قدرات مصر من صادرات التمور وإقامة نموذج زراعي-صناعي متكامل.

ووفقا لأرقام معلنة، يقدر عدد النخيل في مصر بنحو 15 مليون نخلة، ويصل إنتاجها من التمور إلى نحو 1.5 مليون طن سنويا، فيما تنتشر زراعة النخيل في ربوع أرض الكنانة من السلوم حتى أسوان ناهيك عن أرض الفيروز في سيناء وواحة سيوة ومحافظة الدقهلية وهي من المحافظات المصرية التي تنتشر فيها زراعة النخيل بكثافة عالية.

وإذا كان التمر جزءا أصيلا من التقاليد الغذائية الرمضانية فمصر تقدم أجود أنواع التمور للعالم، فيما تفيد بيانات منشورة بأن إجمالي إنتاج الواحات البحرية وحدها من التمر يصل إلى 30 ألف طن سنويا بينما اشتهر "البلح السيوي" المنسوب لواحة سيوة التي سماها المصريون القدامى "أرض النخيل" كعلامة دالة في عالم التمور.

وتوصف النخلة "بالشجرة المباركة" فيما يمكن الاستفادة من كل جزء فيها ودعم مفاهيم التنمية الذاتية في القرى والواحات وفي معرض الزهور الأخير بحديقة الأورمان في شهر أبريل الماضي عرض بعض أبناء واحة سيوة أنواعا متعددة من التمور السيوية "كالتمر الفريحي والمجدول والكعيبي والبارحي" فيما كان بعضها مجفف والبعض الآخر مصنع بطرق مطورة بالحشوات والأطعمة المختلفة.

والنخيل يشكل عصب الاقتصاد المحلي في واحات مصر بقدر مايشكل عماد تراثها حتى أن أبناء واحة سيوة يقدمون لضيوفهم "الجمار" وهو قلب النخلة تعبيرا عن الحفاوة والترحيب كما أنه يعد جزءا من مهر العروس.

وتشهد بلدة "شالي" التي تعد البلدة الأقدم في واحة سيوة لتكون من أقدم بلدات العالم وهي مبنية "بالطين والملح" عمليات ترميم تراعي في المقام الأول الأبعاد التاريخية والتراثية والبيئية للمكان وينخرط في هذا الجهد الثقافي المعماري خبراء يدركون خصوصية المكان، فضلا عن بنائين من أبناء سيوة يمسكون بأسرار البناء بالطين والملح واخشاب أشجار الزيتون وجذوع النخل.

والواحات البحرية تضم ثروة كبيرة من النخيل حيث تفيد أرقام معلنة أنها تصل إلى مليونين ونصف المليون نخلة، وتضم 28 مصنعا صغيرا لتجفيف وتعبئة البلح الفاخر الذي يصدر الكثير منه لدول شرقي آسيا فيما يمكن لتمر الواحات البحرية أن ينافس بقوة في الأسواق الأوروبية.

وفضلا عن النخيل، فإن الواحات البحرية غنية بخام الحديد وأشجار الزيتون أما "مدينة الباويطي" وهي مركز الواحات البحرية فأخذت اسمها من "الشيخ حسن أبي يعقوب بن يحيى الباويطي" وهو أحد علماء الدين المغاربة وقد آثر البقاء بين سكان هذه الواحة المصرية خلال عودته من الحج شأنه في ذلك شأن عشرات من الشيوخ والمتصوفة المغاربة الذين زخرت بهم المدن والقرى المصرية.

والصحراء الغربية في مصر تضم عدة واحات أهمها واحة سيوة التابعة لمحافظة مطروح وواحات "الخارجة والداخلة والفرافرة وباريس"، وهي ضمن محافظة الوادي الجديد بينما تتبع "الواحات البحرية" محافظة الجيزة.

وتحظى الوادي الجديد بإقبال كبير في المعارض التي تقام في القاهرة وغيرها من المدن فيما تفيد إحصاءات منشورة بأن تلك المنطقة تحوي نحو مليوني نخلة وتمثل التمور المحصول الاقتصادي الأول لأبناء المنطقة وسط توقعات بأن يصل عدد النخيل في الوادي الجديد خلال السنوات الخمس المقبلة إلى 5 ملايين نخلة.

ومع الاتجاه لزراعة أنواع جديدة من التمر في الوادي الجديد مثل "البارحي والمجدول"، إلى جانب الأنواع المزروعة بالفعل "كالسيوي والصعيدي"، تطمح هذه المحافظة المصرية للتحول إلى "مركز عالمي في إنتاج التمر والصناعات المرتبطة به".

وكان وزير الزراعة الدكتور عز الدين أبو ستيت قد صرح بأنه يجري حاليا دعم وتطوير زراعة النخيل وصناعة التمور للحصول على شهادات الجودة العالمية وتعزيز منافسة التمور المصرية على مستوى العالم، منوها في تصريحات صحفية بتطوير مصنع التمور في الوادي الجديد بتكلفة تبلغ 20 مليون جنيه.

ولفت أبو ستيت إلى أنه إذا كانت مصر تحتل المركز الأول عالميا في إنتاج التمور بنسبة تصل إلى 18%، فإنه سيتم زيادة هذه النسبة بعد زراعة 25 مليون نخلة وإنشاء المصانع الجديدة لتصنيع التمور والاستفادة من نواتج النخيل في العديد من الصناعات التكميلية بينما يشكل التمر الآن فاتحة كريمة لمائدة إفطار الصائمين كل يوم في شهر رمضان الفضيل.

وإن ترددت تعبيرات رمضانية دالة في العالم العربي مع قدوم شهر رمضان كل عام مثل "شراء التمور وإعداد المؤنة للموسم الرمضاني" لن يختلف المشهد كثيرا في أسواق المدن والبلدات العربية من المحيط إلى الخليج وهي تقدم بأكثر الصور جاذبية للزبائن التمور وقمر الدين والمكسرات والمعجنات وشتى أنواع الحلوى، وهو مشهد يؤكد مجددا على مشتركات الثقافة الغذائية العربية.

وحتى في بلد خارج العالم العربي لكنه يضم نسبة وازنة من المسلمين كالهند حيث يصوم المسلمون هناك هذا العام في درجات حرارة مرتفعة تصل إلى 40 درجة وتتجاوزها أحيانا، فإن التمر بمذاقه الشهي هو صديق الصائمين الذين يبدأون إفطارهم بتمرات ناعمة وسهلة الهضم لتعوض بعض ما فقدته الأجساد في صيام اليوم الحار والطويل فيما ينطبق الأمر ذاته على باكستان ذات الأغلبية المسلمة.

وعند بدء الإفطار، يزود البلح الجسم بنسبة معتبرة من المواد السكرية السهلة الهضم وكذلك المعادن سهلة الامتصاص فيما يتفق خبراء التغذية على أن التمر المنقوع في الماء يزود الصائم عند بدء الإفطار بالطاقة والمياه معا ويقوي القلب والكبد وجهاز المناعة ويعالج حالات فقر الدم المزمن والانيميا الحادة، كما أشارت دراسة أصدرها مؤخرا مركز البحوث الزراعية في القاهرة.

وطريف أن يطلق كل عام في رمضان العديد من أسماء المشاهير حول العالم على أنواع متعددة من البلح في الأسواق المصرية، فضلا عن أسماء مسلسلات تلفزيونية وفنانات مثل ياسمين صبري وهيفاء وهبي ونانسي عجرم ناهيك عن لاعبي كرة القدم وفي مقدمتهم النجم العالمي محمد صلاح ورونالدو نجم فريق اليوفنتوس الإيطالي.

ومن الطريف والدال أن تنشر صحف كبرى في الغرب مواضيع عن التمر كغذاء رمضاني أصيل وأن تتحدث جريدة أمريكية مثل نيويورك تايمز عن "التمر بالكريم والفستق المبشور" وتستعرض انهماك ربات البيوت العربية في افانين المأكولات الرمضانية.

وتقول الصحيفة الأمريكية الشهيرة إن التمر علامة رمضانية أصيلة كما أنه يوحد غذائيا كل المسلمين مهما تناءت أماكن إقامتهم في الدنيا الواسعة، مشيرة إلى أن النخيل وهو مصدر البلح يرمز ثقافيا للحفاوة والكرم والطمأنينة والسلام.

ولفتت إلى أن المسلمين في كل انحاء العالم يحرصون على بدء إفطارهم بتناول التمر تأسيا واقتداء بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فيما تتفنن بعض الفنادق والمطاعم التي يرتادها المسلمون في الغرب في تقديم التمر بصيغ متنوعة وحداثية غير أن المبدأ الرئيس يبقى: "لا إفطار بلا تمر".

وإذا كانت صحف الغرب تبدي اهتماما كبيرا بالثقافة الغذائية الرمضانية التي يشكل التمر جانبا مهما فيها فلن يكون من الغريب أن تتبارى الصحف ووسائل الإعلام المصرية والعربية في الحديث عن تمور رمضان ولعل هناك حاجة لمزيد من الكتابات الثقافية الممتعة عن الموائد الرمضانية في زمن العولمة وحقبة ما بعد الحداثة فيما تدور معركة ثقافية طريفة حول الإفطار الشهي الذي تحاول ثقافات غذائية أن تدلى فيه بدلوها بقدر ما تعبر عن حقيقة العلاقة بين الثقافة والغذاء وبين الخصوصية الثقافية الغذائية والغذاء المعولم.

والموائد الرمضانية المصرية المزينة بالتمر و"الخشاف" مبهجة سواء كانت بسيطة أم باذخة وتتفق في جوهرها الإنساني المعبر عن مفاهيم "جمع الشمل واللمة" والأمر هنا في مصر الخالدة قد يشكل نموذجا هاديا لكاتب غربي مثل الكاتب الايطالي ستيفانو بيني الذي تناول في طرح بعنوان "الطعام والتعايش" الدور الذي ينهض به إعداد الطعام وتبادله أحيانا كهدايا بين العائلات المختلفة في تعزيز المناعة المجتمعية وترسيخ بنية المجتمع و"بث الألفة بين كل من يعيشون تحت سماء واحدة في بلد واحد".

وفيما يقول ستيفانو بيني:" إذا نجحنا في أن نشم رائحة مطبخ الآخرين وأن نعرف شيئا عن تراثهم فقد تمضي الأمور على نحو أفضل"، فإن ثمة حاجة ثقافية للتعرف على موقع التمر من طرائف التراث الغذائي العربي وهو موضوع يدخل في "عالم الظرف الأدبي والفكاهة".

وهذا العالم استرعى اهتمام كتاب مثل الكاتب الصحفي العراقي خالد القشطيني الذي تنشر له جريدة الشرق الأوسط اللندنية طرائف مثيرة للاهتمام حول التراث الغذائي العربي فيما يورد بعض القصائد الفكاهية أو "الشعر الحلمنتيشي الذي أبدع فيه الشاعر المصري حسين شفيق وهو أول من نحت هذا المصطلح".

ومن هذه الطرائف الحلمنتيشية التي أوردها خالد القشطيني، ماكتبه حسين شفيق المصري الذي قضى عام 1948 عن حاله مع زوجته وطلباتها من الأسواق في رمضان فقال: "أتى رمضان فقالت هاتوا لي زكيبة نقل فجبنا لها.. ومن قمر الدين جبت 3 لفائف تتعب شيالها.. وجبت صفيحة سمن وجبت حوائج من غيرها طالها.. فقل لي على ايه بنت الذين بتشكي الى أهلها حالها!".

وقد يعيد ذلك للأذهان ما كتبه العالم والفقيه المصري الكبير جلال الدين السيوطي في كتاب بالغ الطرافة عنوانه "منهل اللطايف في الكنافة والقطايف"، وهذا الكتاب للعالم الموسوعي المصري الكبير الذي توفي في القاهرة في شهر اكتوبر عام 1505 يشكل علامة في طرائف التراث الغذائي العربي.

ومن طرائف ما نشر في الصحف ووسائل الإعلام في مطلع شهر رمضان الحالي تقدير قيمة ما تناوله أبناء محافظة دمياط من البط في إفطار أول أيام رمضان كعادة سنوية تتوارثها الأجيال ضمن ثقافتها الغذائية بمبلغ يصل لنحو 58 مليون جنيه.

أما البلح الرمضاني في الأسواق المصرية هذا العام فتختلف أسعاره حسب نوعه، إذ تفيد مؤشرات البيع المعلنة في القوائم اليومية بأن "بلح قرن الغزال" هو الأعلى سعرا حيث يتراوح سعر الكيلو جرام الواحد منه ما بين 20 و30 جنيها، أما "البلح الأبريمي" فيسجل ما بين 12 إلى 22 جنيها للكيلو جرام وهو ما ينطبق أيضا على سعر كيلو "البلح الأبيض الغزال" وكذلك "بلح وردة".

ويتراوح سعر كيلو "البلح الشامي" 6 و16 جنيها، وهو السعر ذاته للبلح الأسواني، أما سعر كيلو "بلح مركابي" فيتراوح ما بين 6 و15 جنيها، ويتراوح سعر الكيلو من "بلح برتمودة" ما بين 13 و23 جنيها متساويا مع "بلح الجنديلة" و"البلح السكوتي" بينما توضح إفادات للبائعين بتزايد الإقبال على البلح هذا العام أكثر من أعوام سابقة.

ويدخل التمر أيضا في صناعة كعك العيد فيما توضح كتابات تاريخية من بينها كتاب "لغز الحضارة المصرية" للدكتور سيد كريم أن المصريين القدماء كانوا يقومون بحشو كعك أعيادهم بالتمر المجفف "العجوة.

وما بين مائدة رمضان والتراث التليد والمستقبل العظيم، تبقى العلاقة بين المصريين والنخيل المبارك قصة شعب مؤمن وأرض طيبة أو قصيدة عشق من جسد الذاكرة وفجر الينابيع العذبة والطموحات المخلصة، إنه النخيل الشامخ ورطب التمر الطيب على مائدة إفطارنا وجذورنا والخطى الواثقة للمستقبل تكتب زمننا!.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك