اكتمل الوحي الإلهي بقول الله -تعالى- في سورة المائدة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"، وذلك يوم عرفة في حجة الوداع للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ليكون الإسلام دينًا مكتمل الأركان، مستندًا إلى كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
وبعد انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، حمل العلماء على عاتقهم مسؤولية فهم الدين واستنباط الأحكام، فكان الاجتهاد بابًا واسعًا أثرى الأمة بعلوم شتى. وعلى مدار أكثر من ألف عام، ظهر تراث إسلامي زاخر بالكتب في التفسير، والحديث، والسيرة، والفقه، وغيرها من العلوم الشرعية.
وفي هذه السلسلة، نطوف معًا بين رفوف "المكتبة الإسلامية"، نستكشف في كل حلقة كتابًا أثرى الفكر الإسلامي، ونتأمل معانيه وأثره في مسيرة العلم والدين.
الحلقة الحادية والعشرون..
ابن الصلاح.. إمام الحديث وصاحب المقدمة
الإمام ابن الصلاح هو أحد كبار علماء الإسلام في القرن السابع الهجري، وُلد عام 577هـ في بلدة شرخان، إحدى مناطق أربيل بالعراق حاليًّا. وفقًا لما جاء في موقع الأزهر للفتوى الإلكترونية، فقد نشأ في بيئة علمية ونهل من علوم والده، قبل أن يتنقل بين عدد من الحواضر العلمية الكبرى مثل الموصل، وبغداد، ونيسابور، وحلب، ودمشق، وخراسان، حيث تتلمذ على يد مجموعة من كبار العلماء، وعلى رأسهم أبو جعفر عبيد الله بن أحمد البغدادي المعروف بابن السمين، وهو أقدم شيوخه.
حسبما ذكر كتاب "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/243)، فقد كان ابن الصلاح أحد فضلاء عصره، متميزًا في علم التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال وعلوم الحديث واللغة، وكانت فتاويه تتسم بالدقة والسداد، مما جعله من العلماء الذين انتفع بهم أهل زمانه. وقد نبغ في عدد من العلوم الإسلامية، مما أهَّله لتولي التدريس في عدد من المدارس الكبرى في العالم الإسلامي، مثل المدرسة الناصرية بالقدس، والرواحية بحلب، ودار الحديث بدمشق، حيث تتلمذ على يديه عدد كبير من العلماء.
كما يقول كتاب "سير أعلام النبلاء" للذهبي، فقد كان ابن الصلاح عالمًا واسع الاطلاع، له إسهامات بارزة في علم الحديث، ومن أشهر مؤلفاته "مقدمة ابن الصلاح"، التي أصبحت حجر الأساس في دراسة علوم الحديث. ظل ابن الصلاح مرجعًا في الفقه والحديث حتى وفاته في 25 ربيع الآخر سنة 643هـ بدمشق، حيث فقد العالم الإسلامي أحد أعمدته العلمية الكبرى.
قراءة في مضمون الكتاب
بدأ المؤلف كتابه ببيان بعض المصطلحات المتعلقة بالفتوى، مثل الإفتاء والمفتي والاجتهاد، حيث نقل أقوال السابقين فيها، ثم وضح خطورة الفتيا وضرورة تثبت المفتي من فتواه مع سعة علمه وتمكنه في فنه. كما استعرض دلائل ورع كبار المفتين عند حديثهم في الفتيا، وحذر من نسبة الأقوال لغير قائليها أو وصف الأمور بغير حقيقتها.
كما عرض شروط المفتي اللازمة لقبول فتواه، والتي تشمل الأمانة والعلم والنزاهة عن أسباب الفسق ومسقطات المروءة، ثم قسَّم المفتين إلى قسمين: الأول هو المستقل، وهو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من مصادرها المعتبرة دون تقليد لفقيه بعينه، بشرط أن يكون جامعًا لشروط الاجتهاد ومتمكنًا من أدواته. أما القسم الثاني، فهو المفتي غير المستقل، وهو المنتسب إلى أحد أئمة المذاهب المتبوعة.
فصَّل المؤلف الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المفتي، ومنها ألا يعجل بالإجابة قبل استيفاء السؤال، وأن يكون رفيقًا بصاحب الفتوى، صبورًا عليه، محتسبًا للأجر، وألا يفتي في حال تغير خلقه أو انشغال قلبه. كما حذر من التساهل في بحث المسائل والتسرع في إصدار الأحكام قبل استيفائها حقها من النظر والفكر. وأكد على ضرورة ألا يكتفي المفتي بعرض الآراء دون ترجيح أحدها، وأن يوضح الجواب بأسلوب يزيل الإشكال. كما شدد على أهمية احترام قواعد فقه الخلاف، ومراعاة ما استقر عليه أهل المصر من الآراء الفقهية المعتبرة، وأوصى باستحباب مشاورة أهل الفتوى والرأي قبل إصدار الحكم.
كما أورد المؤلف آدابًا ينبغي على المستفتي التحلي بها، ومنها أن يسأل العلماء المشهود لهم بالتمكن في علوم الشرع، والورع، والأمانة، والفطانة، وفهم الواقع ومتطلباته، وأن يحترم المفتي عند مخاطبته وسؤاله. وإن أراد معرفة دليل الفتوى وحجتها، فله أن يسأل عنها في مجلس آخر.