فى الوقت الذى كان العالم يصرخ خوفًا من الموت المحيط به جراء فيروس كورونا اللعين، كانت لبنان تصرخ تحت وطأة حصار الأزمة الاقتصادية وشبح الهجرات غير الشرعية والفتنة الطائفية التى تهدد بسقوط وطن بأكمله، فى ذلك الوقت تصدرت للعالم صورة مأساوية عن لبنان بعد أن كانت صورته هى الإنعكاس الحقيقى الوحيد للفن والجمال والحرية والأمل فى غد أفضل. كيف حدث ذلك ومتى؟! تكفلت الصحف ومواقع الأخبار بالإجابة لكن ماذا عن معاناة الشعب اللبنانى فى ذلك الوقت؟ وما هى محاولاته للخروج من الأزمة؟ هذا ما يتحدث عنه الكاتب محمد طرزى من خلال رواية ميكروفون كاتم صوت، الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون، الحاصلة على جائزة نجيب محفوظ للأدب عام 2024. تنطلق أحداث الرواية من المقبرة حيث يعمل سلطان، مقبرة كبيرة فى قلب المدينة تغلى بالعديد من الأحداث فلا يخيم عليها الصمت، كما نعرف عن المقابر، بل على العكس تمتلئ بالحياة والغضب الذى تزداد حدته يوميًا.
تتوسط المقبرة صورة الزعيم بوجه تخيم عليه ابتسامة واسعة، وهو ينظر إلى المدينة ليعبر الكاتب عن كيفية تعامل الحكومات والأنظمة مع الأزمات التى تحول الوطن فى النهاية إلى مقبرة كبيرة للشعوب. يعمل سلطان فى شتى الأعمال التى تتصل فى النهاية بالموت، كأن يصبح دليل المغتربين العائدين الوحيد للعثور على مقابر الآباء والأجداد التى غير الزمن من شواهدها، وأصبح من الصعب العودة إليها تماما كما أصبحت العودة والاستفادة من ماضى لبنان الحضارى الذى جمع جميع الطوائف والانتماءات دون نزاعات أمر فى غاية الصعوبة يحتاج إلى مرشد لديه أمل فى المستقبل ويحفظ التاريخ عن ظهر قلب.
كما يعيش سلطان بالقرب من المقبرة وسط أسرته، يعولهم أب يعمل لدى جمعية معنية بشئون الموتى والمقابر، يقود سيارة تتجول يوميًا فى شوارع المدينة يذيع أسماء من رحلوا إلى الحياة الأخرى، يرثيهم بنعى غاية فى الركاكة اللغوية وضعف المعانى المعبرة عن فداحة الموت.
بالوقوف على لمحات من حياة الأب نكتشف أنه تعبير عن جيل بأكمله، جيل كبلته السلطات والحروب الطائفية المتتالية بالعجز ليكتفى بالصمت حتى انتهى به الأمر إلى ناعى لأبناء المدينة من أبنائه وأبناء جيله ولا يجيد حتى الطريقة التى يودعم بها.
وبين عجز الأب ومهام العمل فى المقبرة يعيش سلطان يشهد على مراسم الدفن، دفن الأحلام والآمال فى غد أفضل وفى وطن أكثر أمان، أحلام يمثلها أصحابها ممن يدفنون تحت التراب، الذى كاد ينهال على أحلام سلطان التى لم يتخلى عنها بالرغم من الموت والخراب الإنسانى المحيط به ويمثله أبناء جيله وأصدقاء والده الذين يلتقى بهم يوميًا فى ظلمة ليل المقبرة الذى يتستر على دموعهم واعترافاتهم بأخطائهم وهزائمهم المتكررة من جيل إلى جيل.
فيلتقى قاسم صديقه الأقرب الذى قرر الرحيل عن هذا الوطن بصحبة أسرته الصغيرة ضاربًا بعرض الحائط المخاطر التى قد يتعرض لها أثناء هجرته غير الشرعية، ليرصد الكاتب من خلاله كواليس الهجرات غير الشرعية التى يكلل أغلبها بالفشل إما بالموت أثناء الرحلة أو إلقاء القبض عليهم والعودة إلى حيث كانوا مرة أخرى. لوركا الصديق الذى يرصد من خلاله التحولات الفكرية المفاجأة التى تحدث للبعض، فقد تحول عاشق الموسيقى ابن العائلة الأرستقراطية إلى أحد دعاة الجهاد الدينى لدى بعض الجماعات ليدفع ثمن هذا التحول من حياته ومصير عائلته الذى يعبر فى باطنه عن مصير وطن تتلاعب به المصالح السياسية، وعن تغيرات تحدث دائما مع اختلاف الطوائف والانتماءات بما تقتضيه المصالح والأوضاع المسيطرة.
حسن هذا الصديق الذى يلعب دور الأب من خلال نصائحه التى تلخص معاناة جيل بين هجرة غير موفقة للخارج وعودة للوطن بمزيد من الهزائم الشخصية والسياسية، فقد تحولت رحلته فى الخارج إلى عار يلاحقه أينما ذهب فلم يجد مفر له سوى ليل المقبرة. لكنه على الرغم من ذلك يملك شبكة علاقات يمكنك من خلالها أن تعيش وسط طبقات المجتمع المختلفة، وتشهد على التحولات التى أدت إلى ما هم عليه فى الحاضر. عفاف أو ماما رينا سيدة مسنة تدير منزل للبغاء نتعرف من خلاله على كم الفساد الذى توغل فى لبنان بين طبقات المجتمع سياسيًا واجتماعيًا على حد سواء، كما يرصد من خلالها كيف يمكن لهزيمة الوطن أن تنعكس على المرأة فتحولها من عفاف إلى ريتا. وسط هؤلاء الذين يجد بينهم سلطان الإجابة على تساؤلاته المؤرقة عن الماضى والحاضر التى قد تساعده على كتابة رواية تاريخية فى محاولة منه تبدو للبعض هروب من الواقع ويراها آخرون رصد لتجربة قد تكون صحوة للحاضر من خلال أمجاد الماضى. ولم يكن سعى سلطان إلى كتابة رواية هى أمله الوحيد، فقد كانت وداد محاولة أخرى من خلال قصة حب تبدو من طرف واحد، وبالوقوف على ظروف حياة وداد الفتاة التى تنتمى إلى أحد الأسر الحاكمة ومقارنتها بظروف سلطان نكتشف أن وداد هى الوطن، هى لبنان بمحاولاته تقريب المسافة بين الطوائف المتنازعة، وبين الحكومات وبين الشعب الذى تعلن انتماءها له فى نهاية الأمر لا محالة.