عام على رحيل عازف القصة القصيرة إبراهيم أصلان - شعبان يوسف - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 7:51 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عام على رحيل عازف القصة القصيرة إبراهيم أصلان

نشر فى : الجمعة 4 يناير 2013 - 9:20 ص | آخر تحديث : الجمعة 4 يناير 2013 - 9:20 ص

فى 7 يناير يكون مر عام على رحيل الكاتب والروائى والإنسان والفنان إبراهيم أصلان، عام حافل بالأحداث التى لم يرها ولم يعلق عليها ولم يكتب لنا عنها، إبراهيم أصلان الذى يحيا بيننا وتحيا كل كتاباته، وما زالت شخصياته وستظل تتحرك شاهدة على كل ما يحدث دون أن نراها، مثله تماما هو الذى كان يتسلل بقوة إلى أرواحنا دون أن نشعر بأى نوع من تبعات ذلك، فهو كان يقول القليل ولكنه كثير فى الوقت نفسه، القليل الشافى والدال والصائب دون إشغال مساحات كبيرة من الكلام،

 

 

ودوما كان يعبر عن أن الفن لا بد أن يكون مكتنزا ولا إسراف فيه فى الكلمات، ربما تكون مهنته كموظف تلغراف علمته هذا الاقتصاد فى اللغة، وكذلك هوايته القديمة والأصيلة فى صيد السمك علمته الصبر، وكان ابراهيم يعشق مهنته التى التحق بها منذ زمن الستينيات، وجعلها محورا لجانب مهم من كتاباته، وخصص كتابا كاملا وهو «وردية ليل» عن هذه المهنة، منذ أن كان يعمل موزعا للتلغراف فى منطقة جاردن سيتى الارستقراطية، هو الشاب الذى أتى من أفقر مناطق مصر «امبابة» وأكثرها شعبية،

 

 

ثم انتقل فيما بعد إلى مبنى المركز الرئيسى لهيئة المواصلات السلكية واللاسلكية بشارع رمسيس، ليعمل فى الدور الرابع بعمارة يطلق عليها العاملون فى «الهيئة» عمارة «الأوتو» وتعرّف هناك على النقابى الشهير وعضو مجلس الشعب فيما بعد أحمد طه، وكذلك الناقد الذى اختفى تديجيا محيى الدين محمد، وللأخير فضل كبير فى تعريف ابراهيم أصلان على مجالات واسعة فى عالم الثقافة كما ذكر لنا أصلان نفسه فى كتابه «خلوة الغلبان»، فى عمارة «الأوتو» وفى غرفة صغيرة جدا فيما بعد كان أصلان يعمل على البرقيات التى كانت ترد من خارج البلاد، وكان يقرأها بعناية،

 

 

وكنت ألاحظ أنه يدون بعض الملاحظات اللافتة قبل أن تأخذ هذه البرقيات طريقها الطبيعى إلى عموم المرسل إليهم. كان التناقض حادا بين الشاب الموظف، وبين كافة العملاء غريبى الأطوار، وساكنى الاحياء الراقية، ولم يفلت التعبير عن هذا التناقض المثير لدهشة هذا الشاب الدائمة، وتسللت إلى الكتابة شخوص عديدة، وتحفة ابراهيم الأصيلة فى كتابة القصة القصيرة، ليست «الحدوتة الطريفة» فى حد ذاتها،  وليس الحوار المكتنز كذلك، وليست اللفتة الحادة التى يتقن أصلان التقاطها، وكذلك ليس الحوار، ولكن كل هذه الخصائص تجمعت فى قدر قصير جدا من الكلمات، لتعطى لنا هذه الشحنة الفنية العالية التى ظلت ملازمة لأصلان حتى آخر كتاباته فى جريدة الأهرام، وعندما أصابه الوهن، شعر بأن هذا الوهن راح ليصيب الكتابة فى آخر نص له،

 

 

وراح يسأل أقرب الناس إليه عن أى خلل لوحظ فى هذا النص،كان حريصا لدرجة نادرة وتقريبا معدومة عند آخرين، على الارتفاع بنصه إلى حدود خاصة جدا، هذا الحرص هو الذى جعله يمتنع عن نشر كل ما كتب على مدى حياته كلها، رغم أن كل ما كتبه يندرج تحت صفة «القيمة العالية»، ولم يلن لقبول نشر كل ما كتب إلا فى الفترة الأخيرة من حياته، ولأنه كان دقيقا وحرفيا وحذرا كان يمهلنا حتى يضع عنوانا مناسبا لهذه الكتابات بعد فحصها ومناقشة جدواها، هذه الكتابات التى انفلتت من أن تكون بين ضفتى كتاب من كتبه.

 

 

والعائد لسنوات الستينيات سيدرك كيف استقبلت الحياة الأدبية ابراهيم أصلان، ولم يكن ذلك ممثلا فى نشر ما يكتبه أصلان من قصص ومقالات ومراجعات فى مجلات الرسالة والثقافة والقصة، ولكن فى التعقيبات التى كانت تعلق على ما يكتبه وينشره، وتبدى ذلك فى مجلة المجلة عندما كان يرأس تحريرها رفيع المقام يحيى حقى، الذى نشر لابراهيم قصة «بحيرة المساء» فى عدد 116 الصادر فى أغسطس عام 1966 وعقّب عليها نقديا الدكتور شكرى محمد عياد، وبعد تحليل استغرق ما يقترب من صفحة من المجلة كتب يقول: «هذه قصة جيدة، وهى أول قصة أقرأها للكاتب الشاب ابراهيم أصلان، فليحرص على تنمية موهبته، وليكن دائما أصيلا وصادقا، لقد أعجبنى من هذه القصة أت الكاتب لا يحاول أن يصطنع الحداثة كما يفعل كثير كتاب القصة الشبان»، وكان هذا التعقيب لأحد النقاد الأعلام دافعا لأصلان ليكون حريصا على الانتقاء والتصفية الفنية.

 

وبعد أن تأكد اسم ابراهيم أصلان فى الحياة الأدبية والثقافية، وصار أحد كتاب القصة القصيرة المرموقين، ولم يكن قد أصدر مجموعته الأولى «بحيرة المساء» كانت تجربة المجلة الطليعية «جاليرى 68» والتى أعدت ملفا فريدا عن قصصه، ونشرت المجلة فى عددها الصادر فى فبراير 1971خمسا من قصصه،  وهى (الجرح والرغبة فى البكاء والتحرر من العطش والبحث عن عنوان والملهى القديم) وتناول القصص بالنقد والتحليل ثلاثة من الكتاب المرموقين هم ادوار الخراط وغالب هلسا وخليل كلفت،

 

وبالطبع لا يتسع المجال لإعادة نشر ما كتبوا، ولكننا من الممكن أن نقتبس بعض جمل مماكتبوا، يقول الخراط (شفاه الله): «هذا كاتب يتشبث بعناد بتفاصيل الحياة العالم المرئية فقط، ويبنى قصصه على غرار هذا العالم الذى يراه جامدا، لا يحمل ولا ينقل رسالة، والتفاصيل هنا رثة، تلوح سوقية، يومية، مختزلة إلى أكثر عناصرها شيوعا وأقربها إلى ما تقع عليه العين العادية، العابرة،التى لا تبحث عن شىء  بذلته»،  ويكتب غالب هلسا: «إن قراءة ابراهيم أصلان دفعة واحدة تكشف عن ملامح وسمات لا نستطيع تبينها من قراءتها متفرقة، أول شىء نتبينه هو وحدة الرؤية والموقف، إن الكاتب وقد ألقى بأبطاله فى الأرض الخراب، الجرداء، المتربة قد حكم عليهم باليأس الابدى والمعاناة، تتكشف للحظة لمحة من عالم بعيد مرجو، امرأة جميلة تسير بجوار زوجها، علاقة حب ممكنة ولكن ذلك أشبه بخيالات ورؤى سكان الجحيم، إن هذه اللمحات الحلوة لن تفعل شيئا سوى أن تلقى ضوءا ووعيا على تعاسة اللحظة المعاشة»، ثم يكتب خليل كلفت عن مرحلة جديدة عند ابراهيم أصلان، وأريد أن أنوه هنا أن كلفت كان قد ترجم مقالا مهما كتبته الدكتورة آمال فريد باللغة الانجليزية عن مجموعة بحيرة المساء ونشره فى إحدى الدوريات العراقية فى أوائل السبعينيات، كتب كلفت فى دراسته: «تمثل قصص ابراهيم أصلان منذ قصته «اللعب الصغيرة» مرحلة جديدة فى فنه القصصى، وهناك اعتباران يبرران هذا التقدير، من ناحية بلغت أساليب الكاتب الفنية درجة عالية من النضج بحيث استطاع أن يضفر من تجاربه الفنية السابقة، أسلوبا جديدا يستفيد من أدق خلجات تلك الأساليب ليصور ببراعة مذهلة العالم القصصى والفريد والمرهف فى المرحلة الجديدة بمكان خاص، فلا تكاد قصة واحدة تخلو منه بحيث يغطى كل القصة أو على الأقل أجزاء كبيرة منها».

 

كان هذا الاحتفاء النقدى الكبير بالكاتب الشاب الذى لم يكن قد أصدر مجموعته القصصية الأولى بعد، بمثابة مقدمة عظيمة لتدشين كاتب عظيم، ولم ينقطع هذا الاحتفاء طوال حياة أصلان، وربما ظلت هذه الكتابات النقدية حبيسة مجلات ودوريات متخصصة، حتى تحولت كتابات ابراهيم أصلان إلى السينما، وكان فيلم «الكيت كات» للمخرج الكبير داود عبدالسيد الذى استطاع أن يحول رواية «مالك الحزين» بكل تعقيداتها إلى فيلم أصبح علامة فى السينما المصرية،وكذلك فيلم «عصافير النيل» من إخراج الفنان المبدع مجدى أحمد على، وبعد ذلك راح لإبراهيم يكتب فى جريدة الأهرام مقاله الأسبوعى والذى أنشأ تواصلا شديدا وحميميا بين أصلان وقرائه، ليظل ابراهيم أصلان مخلصا لفنه، ولناسه البسطاء فى كل مكان فى العالم، ليعزف بمهارة فنان عظيم على أوتار الحياة بأصابع ملائكية حقا.

 

 

 

 

 

 

 

شعبان يوسف  كاتب صحفي
التعليقات