محمود بيرم المصرى - شعبان يوسف - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 6:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

محمود بيرم المصرى

نشر فى : الجمعة 15 مارس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الجمعة 15 مارس 2013 - 8:00 ص

لم تكن حياته منذ ولادته حتى رحيله إلا سلسلة من المتاعب والكوارث والمضايقات والمناف والاستبعادات، لكنه استطاع بإرادته المعجزة أن يحول كل تلك الكوارث إلى نجاحات وأغانٍ وأشعار، ومطارق على رءوس السادة والمحتلين الإنجليز، كان ومازال رغم رحيله مقلقا، فبمجرد استدعاء كتاباته وانتقاداته وهجومه، يمثل أمامنا جميع الفاسدين والمنافقين واللصوص وتجار الدين.

 

ولد محمود محمد مصطفى بيرم الشهير بالتونسى فى حى السيالة بالإسكندرية، ودخل الكتاب الذى لم يحتمله وهجره سريعا، وتزوج والده من امرأة أخرى فى حى الأنفوشى ومات عندها بعد أن سلبته كل أمواله، ليجد الصبى نفسه مسئولا عن الأسرة التى تركها عائلها شبه معدمة، ولكن محمودا كان ضجرا بالعمل ومداومته، حتى بعد أن افتتح دكانا يبيع فيه ويشترى، ولم يفلح لكنه كان يقرأ فى الورق الذى يلف به أنواع البقالة التى كان يبيعها، ويحكى أنه قرأ الشيخ محيى الدين بن عربى بهذه الطريقة، وهام به، وتأثر كثيرا بما قرأ، لكنه لم يستطع استكمال مشروع البيع والشراء بعد أن خسر فيه الجلد والسقط كما يقول المثل، ثم راح يعمل مع خاله المقاول، وقابل فى هذه الفترة أحد البناءين، وكانا يتبادلان الحديث دوما، وكان هذا البناء يروى له بعض المحاورات الفنية، وروى له يوما قصة «السلك والوابور»، وهى محاورة طريفة بين التلغراف والقطار، وكان كاتبها الشيخ عاشور الذى كتب لأم كلثوم طقطوقة «امتى الهوا ييجى سوا» وكانت هذه بداية ثانية لبيرم بعد قراءته لابن عربى، وظل الحوار قائما بين بيرم وهذا البناء الذى أعطاه مفتاحا آخر فى الفن، وبدأ بيرم يقتصد من دخله البسيط حتى يحصل على كتب الأساطير والحكايات الشعبية مثل ألف ليلة وليلة وأبوزيد الهلالى وعنترة وسيف بن ذى يزن وغيرها من موروثات عديدة، ليصبح هذا الرافد الأخير مكونا ثالثا لثقافة بيرم الفنية، وتمر حياة بيرم بسلسلة متاعب جمة، وكان القدر يدبر شيئا آخر ليبدع لنا فنانا فذا، فعندما اشترى بيرم بيتا صغيرا فوجئ بأن ما كان يسمى بالمجلس البلدى يحجز على هذا البيت ويطالبه بمبلغ كبير كعوائد لا يعلم عنها شيئا، ويجن بيرم ويكتب زجليته الأشهر فى هذا الزمان، والتى يصرخ فيها قائلا:

 

«إذا الرغيف أتى فالنصف آكله والنصف أجعله للمجلس البلدى، يا بائع الفجل بالمليم واحدة كم للعيال وكم للمجلس البلدى، كأن أمى أبَلّ الله تربتها أوصت، وقالت: أخوك المجلس البلدى»، وذهب بيرم لأحد أبطال ذلك الزمان وهو الكاتب الصحفى عبدالقادر حمزة، وطلب منه نشر القصيدة، واستجاب حمزة ونشر القصيدة فى موقع متميز، وطار خبرها سريعا بين الناس، وترجمها موظفو المجلس البلدى نفسه، إذ كانوا من الأجانب، وتداول الناس القصيدة بشكل لم يحدث من قبل، ليولد بيرم بهذه القصيدة عملاقا فزامن أول ضربة فأس، وتبدو عليه خفة الدم المصرية العميقة، ولا يستطيع أحد أن يلم بالمحطات التى مر بها بيرم، فهناك عدد وافر من الكتب والمجلدات والأبحاث التى رصدت حياته بشكل دقيق، ورغم كل هذا فتراث بيرم الفنى والثقافى والإبداعى لم يجمع حتى الآن، والأعمال التى أشرف عليها الكاتب الراحل أحمد رشدى صالح لم تكن كاملة ولا شاملة، فبيرم كتب الزجل والأغنية والمقامات، وجمعها الشاعر الراحل طاهر أبوفاشا وقدم لها تقديما نقديا لافتا، وكذلك كتب بيرم المقال، وله تراث هائل فى كتابة المقال، وجمعت جريدة الجمهورية بعضه، وهناك مجلدان جمعهما أحد الباحثين فى تونس كان بيرم كتب سلسلة مقالات فى المجلة التى أصدرها فى تونس، ولن يصلا إلى مصر، وأعتقد أن تراث بيرم المتناثر والمشتت والمحجوب والمستبعد بفعل فاعلين، لابد أن تتولى جمعه مؤسسة ثقافية كبرى، حتى لا يضيع تراث الرجل، أو يعبث به عابث، مثلما استبعدوا ماكان كتبه بيرم فى 14 نصا فنيا تتناص مع النص القرآنى فى الصياغة، ولكن المتربصين ببيرم هاجموه بقوة، حتى جعلوه لا يعيد نشرها، وكان يتضايق عندما يشير إليها أحد، وبمناسبة هؤلاء المتربصين والمتشددين، عندما أصدر بيرم مجلته «المسلة» أثناء ثورة المصريين عام 1919، وتنطلق شرارة الثورة بقوة بعد اعتقال سعد وزملائه فى 8 مارس 1919 ونفيهم لجزيرة مالطة، ويتضامن بيرم مع طلبة المعاهد الدينية والمدارس الذين قرروا الإضراب فى الاسكندرية يوم 12 مارس احتجاجا على سلطات الإنجليز، ويصدر بيرم مسلته وفيها هجوم حاد على مفتى الديار المصرية الشيخ «محمد بخيت» تاذى كان يمالئ الإنجليز وعميلا لهم، وكان يهاجم سعد زغلول بضراوة، فما كان من بيرم إلا وقد كتب قصيدة ونشرها فى العدد الأول يقول فيها:

 

 

«أول مانبدى نصلى على النبى

 

نبى وطنى يلعن أبوك يا بخيت

 

ثانى كلامى وفد مصر بلادنا

 

ولع شموعه والتقى الكبريت

 

ثلاثين سنة يا مصر واحنا فى ضلمة

 

لما حدايتنا ربت الكتاكيت

 

راحم رجال الوفد وادى فرنسا

 

أم الأدب والحظ والتنكيت».

 

ويجن جنون الشيخ بخيت ويهاجم بيرم ويكيد له ويتهمه بالكفر والإلحاد، ولكن بيرم كذلك يترصده ويجعل منه مسخرة ويصفه فى كتاباته الزجلية بأحط الأوصاف من الشيخ كسفريت إلى الكافر الحادى عشر، وتظل هذه المساجلات بينه وبين الشيخ بخيت وأمثاله، حتى يتم نفى بيرم إلى خارج البلاد بسبب القصيدة الشهيرة التى هاجم فيها الملك فؤاد، وفى حقيقة الأمر أن تربصا متعدد الوجوه كان يحيط ببيرم، فهو الشاعر المقلق والساخط والجرىء، إنه تعدى دور الشاعر إلى أدوار أخرى، خاصة بعد ارتباطه بالشيخ سيد درويش وكتب له عددا من الأغانى والأناشيد التى كانت تشعل الروح الوطنية المصرية، ويكتب بيرم فى مذكراته أن سيد درويش هو أمل من دفعه لتأليف أول أغنية حماسية فى حياته والتى يقول فيها:

 

«اليوم يومك يا جنود

 

متجعليش للروح تمن

 

يوم المدافع والبارود

 

مالكيش غيره فى الزمن

 

هيا اظهرى عزم الأسود

 

فى وجه أعداء الوطن».

 

لذلك كان بيرم مستبعدا ومنفيا، وعاش حياة قاسية فى المنفى الباريسى، وارتبط بسلسلة أعمال صعبة جدا، أورثته أمراض كثيرة مثل مرض الربو الذى رحل بسببه، حتى بعد عودته إلى مصر ظل يعانى من تلك الأمراض، وظل كذلك يعانى من ضيق ذات اليد، وكان يكتب فى الصحف والمجلات بغزارة، حتى يغطى مصاريف أسرته الكثيرة العدد، وقد عانى بيرم فى حياته ما لم يعانه شاعر آخر، وكان يتحسر على نفسه وهو يصف نفسه بموللير زمانه، وعندما رحل فى 5 يناير 1962 رثاه محبوه ورفاقه، وعلى رأسهم صلاح جاهين، وهناك نص مسرحى كتبه الناقد الراحل سيد خميس، وقام ببطولته الفنان سعيد صالح، وكان يعرض فى أحد الرمضانات، وأتمنى أن ينشر هذا النص ويُعاد تمثيله حتى نتعرف على زوايا تكاد تكون مجهولة فى حياة بيرم المصرى قلبا وقالبا.

شعبان يوسف  كاتب صحفي
التعليقات