غريب أمر هذا الإنسان!.. أغمضت عينى فى محاولة للنوم فى آخر أيام ذلك العام العاقر العقيم الذى لم يمنحنا من البهجة لحظة.. أو من الفرح ساعة.. أغلقت عينى على شلال من الصور ينهمر بلا توقف لأحداث مر بها العالم وعاشتها بلادى وعاصرتها أنا بين أهلى وزملائى رفاق مهنتى.. بذلت جهدا كبيرا لألتقط من بينها لمحة أو لفتة أو حتى حادثة صغيرة تنقذنى مما أنا فيه فلم أفلح فى أن أفوز بنبتة صغيرة خضراء ترد عنى الإحساس بجفاف الأرض حولى وقد تشققت من الملح والجفاف الذى فرضه عام ٢٠٢٠.
فى التباعد حياة.. كان هذا شعار ٢٠٢٠ الذى فرض التباعد على الناس ليس فقط لحدود المترين.. ولكن التباعد إلى عوالم أخرى، فكم رحل من البشر هذا العام ممن كانوا ضحايا لفيروس غادر لا يرى بالعين المجردة من أصدقائنا وأحبائنا وإخواننا على الأرض!
غلبنى الإرهاق فنمت وكانت آخر الصور لزميل عزيز عملنا معا طوال حياتنا المهنية فى معهد القلب القومى يرقد الآن تحت وطأة جهاز التنفس الصناعى فى مستشفى العجوزة بعد إصابته بعدوى كوفيد ــ ١٩.
رد الله غيبته وأعاده لأهله وزملائه. آمين يارب العالمين.
لم يخلُ حلمى القصير من صورة لزميل آخر قضى وهو فى أوج شبابه ونشاطه وعطائه: يسرى كامل وزميلتنا العزيزة رئيسة العمليات هدى ومحمد فريد الجندى غفر الله لهم جميعا وكتب لهم جزاء الشهادة فقد رحلوا فى سبيله مجاهدين.
على تلك الحال قضيت ليلى فكيف أصبحت؟
أصبحت على صورة بديعة لطفل لم يتم عامه الأول بعد، جميل الملامح يبتسم لى: ولتلك الصورة قصة بدلت حالى إلى حال لا يمت بصلة لتلك التى بت عليها فى الليلة الأخيرة من عام ٢٠٢٠.
صبحتنى أم مصرية خالصة الملاح والطباع بصورة لابنها الوحيد الذى وافاها بعد انتظار مصابا بمجموعة عيوب خلقية نادرة تهدد حياته.
حينما فحصته للمرة الأولى داهمتنى الهموم: كيف سأصوغ عباراتى لأنقل لها حقيقة الأمر فقد تأثرت بها كثيرا حينما سمعتها تتحدث عنه وكيف أنها اعتنت به وتحملت كل هذا العناء. كانت تبدو راضية تماما.. ومثلا بديعا للأم التى تحمل قلبها بين يديها وترجو الله أن يهب طفلها عمرها إذا كان العلاج. ظلت تتردد علينا فى صبر وتطبق كل التعليمات بدقة مذهلة حتى أصبح الطفل مهيأ للعملية الأولى التى من المفترض أن تتبعها عملية أخرى أكبر تصحح كل العيوب دفعة واحدة.
اشتركنا فى رعايته معا: الطبيبات هالة الفرغلى وأمل عبدالسلام وأنا، وحينما طالت حيرتنا خطر ببالى اسم أحد جراحى القلب النادرين حمزة النادى الذى بدأ تدريبه فى معهد القلب القومى واختار جراحة قلب الأطفال أحد تخصصات جراحة القلب بالغة الصعوبة والتعقيد والتى لا يتفوق فيها إلا فنان من ذوى الهمة. حمزة النادى: زميلنا إلى الآن فى معهد القلب القومى الذى تنقل للعمل واكتساب الخبرات بين إنجلترا وجدة ومركز مجدى يعقوب ويعمل الآن بمستشفى يتولاه المجتمع المدنى.
اتصلت به فرحب بإجراء العملية وقد كان أن هيأ الله له أن يجرى العملية الكبرى فى خطوة واحدة والحمد لله. عملية جراحية بالغة التعقيد تمت بنجاح يماثل المعجزة وأعادت الطفل لقلب أمه سليما معافى ليبدأ رحلة الحياة مع رفاقه من الأصحاء.
تلك هى الصورة التى أرسلتها لى الأم فهى تعلم جيدا كم سيسعدنى هذا ويملأ قلبى بالفرح.
عام جديد بدأته بلحظة أمل وفرح حقيقى لم أتوقعها ولم أنتظرها بعد عام «فى التباعد حياة».
كتبت لتشاركونى لحظة فرح حقيقى نبدأ بها عاما جديدا.. نعاود فيه الحلم والتمنى.
أحلم وأتمنى أن يعود لمعهد القلب القومى كل تلك الطيور المهاجرة التى هجرته قسرا لتؤتى المعجزات فى مراكز عديدة أخرى وفرت لهم الإمكانات التى دعمتهم ليبدعوا ويعلوا نجوما زاهرة فى سماء العلم والطب.
صورة الطفل الجميل وابتسامة عينيه اللامعة بددت وحشة عام بأكمله من الوجل والقلق والحزن والكآبة.
لحظة سأحاول بكل جهدى أن أتمسك بها وألقيها ظلا بهيجا على عام ٢٠٢١ منذ بدايته.
تفاءلوا معى بالعام الجديد..
ستظل ذكرى من رحلوا بلاشك فى عمق القلب باقية بشجن نبيل لا يؤذى ولا يجرح إنما يدعونا لأن نبتهج لأن الأمل مازال باقيا فى الكثيرين منا لدعم الحياة ذاتها. فى العلم إن شاء الله هذا العام حياة يارب.. ولا أزيد حرفا.