الصراع حول الأسماء والكلمات - صحافة عربية - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:53 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الصراع حول الأسماء والكلمات

نشر فى : الأحد 1 يوليه 2018 - 10:00 م | آخر تحديث : الأحد 1 يوليه 2018 - 10:00 م

يشكل الصراع حول الأسماء والكلمات بكل ما تحمله دلالاتها من رموز سياسية وثقافية ودينية إحدى التجليات الرئيسية للنزعات والحروب التى تدور رحاها فى الكثير من مناطق الجغرافيا السياسية المعاصرة، بعضها ينطلق من خلفيات مؤسسة على مرجعيات تاريخية ومعرفية صلبة، بينما يغرق بعضها الآخر فى مستنقع صياغات بلاغية فارغة ليس لها أدنى سند واقعى أو معرفى يدعمها، وتهدف بالدرجة الأولى إلى السيطرة على الرموز والمرجعيات الهوياتية المشتركة للشعوب من خلال استثمارها وتوظيفها فى سياقات سياسية ملتبسة ومشبوهة.

ويمكننا أن نقدم فى هذا السياق أمثلة عديدة تبرز طبيعة النموذجين المختلفين لهذا النزاع المتعلق بالأسماء والكلمات، فبعد مرور أكثر من 27 سنة من التوتر والصراع ما بين اليونان وجمهورية مقدونيا منذ انهيار الاتحاد اليوغوسلافى، توصلت مؤخرا أثينا إلى اتفاق مع حكومة سكوبى من أجل اعتماد تسمية جديدة لكيانها الوطنى قائمة على التحديد الجغرافى تحت مسمى «جمهورية مقدونيا الشمالية»، تمييزا لها عن مقاطعة مقدونيا اليونانية التى تمثل إرثا تاريخيا للأمة اليونانية، وذلك لتجنب أى استثمار سياسى من قبل سكوبى لهذا الاسم من أجل الحصول على مكاسب جغرافية فى المستقبل من جهة، وللمحافظة على الشحنة الرمزية التى تحيل إليها إمبراطورية الإسكندر المقدونى التاريخية بالنسبة لليونانيين من جهة أخرى.

وزيادة على هذا البعد الحضارى للأسماء والكلمات، فإن أبعادها الدينية عادة ما تفرز أوضاعا أشد توترا وخطورة على الاستقرار داخل الدول وخارجها، فقد حدث فى ماليزيا خلال السنوات القليلة الماضية صراع مجتمعى بين المسلمين والمسيحيين حول استخدام المسيحيين لاسم الجلالة «الله»، وذهبت الكثير من الجمعيات الإسلامية الماليزية إلى أن استعمال هذا الاسم من قبل المسيحيين غير مقبول، لأنه جزء من تراث المسلمين الماليزيين الناطقين باللغة المالاوية، التى كانت تكتب بالحروف العربية قبل المرحلة الاستعمارية.

وبالتالى فإن نقطة الاعتراض الرئيسية للمسلمين تكمن فى أن المسيحيين لا يستعملون لغات الأقليات الهندية والصينية فى ماليزيا ولكنهم يتكلمون اللغة المالاوية التى تتوافر على الكثير من الكلمات العربية والإسلامية ومن بينها اسم الله، ومن شأن ذلك أن يساعدهم على ممارسة نشاطهم التبشيرى فى صفوف الناطقين بهذه اللغة الذين قد لا يرى بعضهم ضيرا فى أن ينتقل من دين إلى آخر ما دام اسم الله بكل شحناته الدينية والعاطفية والإيمانية موجود عند المسلمين والمسيحيين على حد سواء، لأن الأعجمى الذى يجهل أصل الأسماء ودلالاتها فى اللغة العربية، عادة ما يقدس الدال على حساب المدلول ويفتتن باللفظ دون المعنى.

أما بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط فإن أبرز مثال على هذا الصراع حول الرموز، يتمحور حول مدينة القدس التى تريد «إسرائيل» تهويدها وإفراغها من مقدساتها الإسلامية والمسيحية، لتبنى على أنقاضها معالم أورشليم البائدة من خلال التخطيط لهدم المسجد الأقصى، الذى كان ومازال يرمز إلى هوية القدس العربية والإسلامية، وصولا إلى إعادة بناء الهيكل من أجل ابتداع جغرافية وفضاء معمارى مغايرين يسمحان باستبدال الاسم الواقعى والمادى لهذا المكان، الذى يتطابق فيه اللفظ مع المعنى، باسم أسطورى لا وجود له إلاّ فى نصوص الأحبار.

كما أن رموز الإسلام السياسى فى صورتيه الشيعية والسنية، يسعون منذ عقود إلى السطو على الأسماء والكلمات، وإلى توظيفها خارج سياقاتها التاريخية بعيدا عن مرجعياتها الأصلية، من خلال جعل قاموس القرآن الكريم ومعجميته عرضة للاستغلال السياسى. وقد تحوّل نتيجة لذلك اسم «حزب الله» فى الكتاب المقدس للمسلمين إلى عنوان إشهارى يحتكره تنظيم سياسى لبنانى ينطلق من خلفية طائفية، وأصبح اسم «أنصار الله»، الذين يخاطبهم الله فى محكم تنزيله بقوله: «يأيها الذين آمنوا كُونوا أنصارَ اللهِ» إلى آخر الآية 14 من سورة الصف، يمثل غطاءً سياسيا لميليشيات الحوثى فى اليمن؛ تماما كما سبق أن وُظّفت الآية 40 من سورة يوسف «إِنِ الحُكمُ إلاّ لله» من طرف الخوارج لسفك دماء المسلمين، ومن طرف التيار القطبى فى حركة الإخوان المسلمين لتكفير أنظمة الحكم فى الوطن العربى.

بيد أنه وعلى خلاف ما يمكن أن يتبادر إلى أذهاننا من أن هذا الاستثمار المتنامى للأسماء والكلمات هو ترجمة للإجلال الذى تحظى به التجليات الثقافية على حساب العناصر المادية المعاصرة، فإن الوقائع الملموسة تشير، كما يقول رجيس دوبريه، إلى أننا نعيش الآن فى زمن الكلمة السريعة المثيرة والفارغة، التى نتفنن فى نشرها عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فنحن نحيا فى عالم الاقتصاد والأرقام وليس فى عالم الفكر، ومن ثمة فإن الكلمات نفسها لم تعد فكرية بقدر ما صارت إعلامية، كما أن الذين يصنعون الأفكار لا ينطلقون من أروقة المكتبات ولكنهم يتحركون عبر منصات الإعلام.

الحسين الزاوي
الخليج ــ الإمارات

التعليقات