روع الوطن بمجموعة متتالية من الجرائم فى الأسابيع القليلة الماضية بدأت بالأم التى ذبحت ثلاثة من أبنائها نحرا أملا فى أن يعرفوا طريقهم إلى الفردوس الأعلى. تلاها تلك الواقع الكارثية التى شهدتها مدينة المنصورة وعاصرها طلب جامعة المنصورة فى حرم الجامعة حينما ذبح شاب فى مقتبل العمر زميلته فى الدراسة التى أحبها بجنون فقرر أن ينهى حياتها لأنها اختارت لنفسها حياة أخرى. أما اللطمة الثالثة التى تلقاها المجتمع المصرى قبل أن يفيق من الأثر الدامى الذى تركته الجريمتان السابقتان فقد سددها بعنف مباغت القاضى الذى أسكت زوجته الجميلة مذيعة التليفزيون بضربة قوية على رأسها بمسدسه ودفنها مقيدة بجنزير بعد أن أجهز عليها بمساعدة صديق له.
تشهد صفحات الحوادث فى الإعلام المصرى يوميا العديد من حوادث القتل بصورة مختلفة لكن ربما كانت تلك الحوادث أكثرها أثرا فى ضمير المجتمع المصرى حاليا.
ثلاث وقائع دامية أبطالها أم وربة منزل ثم شاب عادى لا يميزه شىء ولا تشى ملامحه بأى قدرات خارقة ورجل فى كامل اتزانه تقلد مناصب مهمة فى الدولة صاحب علاقات عامة متعددة.
ليس لأ ى منهم أى سجل إجرامى أو ملف صحى يفيد بإصابة أى منهم بمرض نفسى أو عقلى فهل أقدموا على تلك الجرائم البشعة فى لحظة سرطانية تملكتهم فجأة أمدتهم بتلك القوة الغاشمة التى مكنتهم من ضحاياهم؟
لكل جريمة من تلك الجرائم الفاجعة بلا شك ملابساتها وظروفها، دوافعها ومبرراتها حتى لو تجاوزت حدود العقل والمنطق إلى عالم الهلاوس والأوهام. ينشغل الجميع الآن بعرض الوقائع والأحداث فى الإعلام بكل وسائله إلى جانب وسائل التواصل الاجتماعى التى توثق بالصور وتتسابق فى إجراء الأحاديث بحرية كاملة مع كل من له علاقة بأى من تلك الجرائم. يستنطقون الشهود ويسجلون كل ما قد ينطبق به مدعون دون التثبت من حقيقة ما يتقول به صادقا كان أو كاذبا.
روعتنى تلك الجرائم ككل المصريين خاصة أن تلك الأم البائسة التى ذبحت أطفالها ونيرة أشرف رحمها الله من المنصورة بلد نشأتى وأيام شبابى الأمر الذى يدفعنى اليوم أن أقول كلمة أتمنى لو شاركنى فيها كل إنسان على علم ويشعر بمسئولية تجاه من حوله من الذين داهمتهم تلك الحوادث. كلمة تلقى ضوء كاشفا على تلك الوقائع الدامية التى أخشى ما أخشى أن يطلق عليها أنها ظاهرة مصرية:
< الجريمة على الأرض منذ بدء الخليقة. منذ أن تعلم قابيل كيف يدارى جثة أخيه هابيل التراب من الغراب بعد أن قتله حسدا وغيرة وللجريمة تاريخ.
< ما حدث فى مصر يحدث فى كل بلاد العالم فالجريمة تتطور بتطور المجتمعات. التطور بالطبع لا يعنى بالضرورة إلى الأفضل لكنه بمعنى النمو وما يواكبه من تغيرات ثقافية ومجتمعية.
< أرى أن على أصحاب الشأن من العاملين بمجالات البحوث الاجتماعية والجنائية أن يتخذوا مواقعهم الفاعلة وأن يبدأوا حوارا مجتمعيا هادفا لشرح معلومات علمية عن الأمراض النفسية والعقلية فى صور سليمة علميا مبسطة.
ليس الطفل المتخلف عقليا مبروكا كما يعتقد الكثيرون فى البيئات الشعبية ولا المتوحد عصيا على التعلم أو عاجزا تماما عن التواصل مع مجتمعه أو تتلبسه أرواح من عالم آخر.
< أتمنى على الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى أن تتوقف تماما عن التعامل مع تلك الوقائع الدامية والجرائم الاجتماعية على أنها مسلسلات درامية تتابع حلقاتها فى تشويق يلهث وراءه الإنسان المصرى والذى بلا شك يتأثر بكل ما ينشره بعد إضافة ما يراه من مؤثرات قد تضيع معها معالم الحقيقة تماما.
< أراه فرض عين الآن على كل من يعملون بميادين علم النفس وصحة العقل أن يجدوا سبيلا للوصول إلى العقول على اختلاف ثقافتها ودرجات وعيها لشرح حقيقة بالغة الأهمية: يعانى كل البشر بلا استثناء من درجات من العلل النفسية وربما انفصام الشخصية. تختفى تماما عند أولئك الذين يتدبرون أمر أنفسهم ويتفهمونها وفقا لسعيهم فى الحياة وما يتسلحون به من ثقافة وتجارب حياتية. تظهر بدرجات لا توحى بالمرض لكنها تشير إليه. يعيش أصحابها بصورة طبيعية بين الناس إلى أن تأتى اللحظة التى تستهدف تلك العلة: غضب شديد، ضغط عصبى لفترة طويلة، هزيمة غير متوقعة أى من إحباطات الحياة كانت حقيقة أو متخيلة وغير ذلك من ألوان الضغوط لتنطلق الشرارة التى لا تبقى أو تزر. يستقر المرض النفسى العقلى فى النفس لجبل الجليد لا تظهر منه إلا قمته القادرة على تحطيم أعتى السفن فى لحظات فارقة.. وللحديث إن شاء الله بقية.