يقتضى العرف السياسى الأمريكى، أن تشهد كل دورة انتخابية رئاسية، إجراء مناظرات ثلاث للمرشحين الرئاسيين، وواحدة للمرشحين نائبًا للرئيس. لكن الرئيس الحالى، جو بايدن، صاحب شعار«أمريكا عادت»، ومنافسه فى الماراثون الرئاسى الملتهب، الرئيس السابق دونالد ترامب، صاحب شعار «أمريكا أولًا»، توافقا على إجراء مناظرتين متلفزتين؛ احتضنت أولاهما شبكة «سى إن إن»، يوم 27 يونيو الماضى، بينما تستضيف ثانيتهما محطة «أى بى سى» فى العاشر من سبتمبر المقبل. وذلك بعدما استوفيا شروطًا انتخابية، أبرزها: الفوز بعدد كافٍ من أصوات الولايات، بما يرجح فوز أحدهما، اقتناص نسبة 15% على الأقل، فى أربعة استطلاعات رأى وطنية منفصلة للناخبين المسجلين أو المحتملين. أما محطة «إيه. بى. سى»، فاشترطت فوز المتناظرين بعدد كافٍ من أصوات الناخبين بمختلف الولايات، بما يؤهلهم لانتزاع 270 صوتًا داخل المجمع الانتخابى. وبناءً عليه، تم استبعاد المرشح الرئاسى المستقل، روبرت إف. كنيدى جونيور، من المناظرات، جراء افتقاده تلك المتطلبات.
كانت منازلة أطلانطا، بين بايدن، وترامب، هى الأكثر خصوصية فى تاريخ المناظرات الرئاسية الأمريكية، التى تابعها الأمريكيون، عبر أسير الراديو عام 1948، قبل أن تبث تليفزيونيًا عام 1960. فلما ناهز، بايدن، عامه الحادى والثمانين، وترامب، عامه الثامن والسبعين، أضحى الرئيسان الحالى والسابق، أسن مرشحين فى تاريخ ماراثون البيت الأبيض. ولعلها المرة الأولى، التى يجتمع فيها رئيسان، حالى وسابق، فى مناظرة رئاسية، بدون جمهور، دون أن يتسنى لأعضاء حملتيهما، طوال تسعين دقيقة، التواصل مع أى منهما، خلال فترتى الاستراحة. وخلافا لسابقاتها، تعتبر مناظرة أطلانطا، الأبكر فى تاريخ السباق الرئاسى. إذ جرت قبل انعقاد المؤتمرات الحزبية العامة لتسمية المرشحين الرئاسيين رسميا. وقبل أكثر من أربعة أشهر من اقتراع الخامس من نوفمبر المقبل. حيث جرت العادة أن تقام المناظرات الرئاسية فى سبتمبر وأكتوبر، بعد ترشيح الأحزاب لممثليها، فى أغسطس. كذلك، تمت المناظرة وسط تقارب وتراجع ملفت فى شعبية المرشحين الرئاسيين الأساسيين. فحسب استطلاعات الرأى، لم يتجاوز الفارق بين، ترامب، وبايدن، 0.1 نقطة مئوية، إذ حصل الاول على 41% من التأييد، بينما نال الثانى 40.9%.
لئن لم تكن تقليدًا دستوريًا، تعتبر المناظرات الرئاسية ركنًا أصيلًا فى الحملات الانتخابية، وحدثا مدويا يسلب ألباب الملايين داخل أمريكا وخارجها، منذ أول مناظرة رئاسية، تم بثها إذاعيًا، عام 1948. فلقد حظيت أولى المناظرات الرئاسية الثلاث المتلفزة، عام 1960، بين ريتشارد نيكسون، الذى كان مريضًا، يتصبب عرقًا، مقارنة بمنافسه الهادئ والمفعم بالشباب والحيوية، جون إف كينيدى، بمعدل مشاهدة مبهر. إذ تابعها أكثر من 60% من الأسر التى لديها أجهزة تلفاز، وقتئذ. حيث جذبت أولاها أكثر من 66 مليون مشاهد، من إجمالى 179 مليون أمريكى، لتغدو الأعلى مشاهدة فى تاريخ التلفزة الأمريكية.
يعتقد خبراء أن المناظرات تؤثر فى السلوك التصويتى لشريحة عريضة من الناخبين، الذين لم يحسموا مواقفهم قبل خمسة أشهر من اقتراع الخامس من نوفمبر المقبل. إذ تستهدف المناظرات، بالأساس، استمالة المترددين، كما غير المؤدلجين أو المنتمين إلى حزب أو تيار سياسى بعينه. وقد جاءت مناظرة أطلانطا المبكرة بمبادرة من الحملة الديمقراطية، التى تنشد تحقيق اختراق فى صفوف الناخبين المتأرجحين.
ما إن وضعت أولى مناطرات الدورة الانتخابية الحالية أوزارها، معلنة تسجيل ترامب، نقاطًا جديدة على حساب خصمه الديمقراطى، حتى انبرى مراقبون ديمقراطيون فى إبداء تشاؤمهم من أداء، بايدن، خلال المنازلة المثيرة. فمنذ بدايتها، بدا الرئيس الحالى، مجهدًا، متلعثمًا، وكأنه يعانى صعوبات فى الإلقاء، تعثر فى الإجابات، وانخفاض فى الطاقة. فلقد ظهر، بايدن، على منصة المناظرة بصوت، خافت، متقطع وعيون شاخصة، فيما واجه صعوبات فى شرح أفكاره، وبدا متنازلًا عن استعراض آرائه فى قضايا طالما سجل الديمقراطيون تقدمًا بشأنها، مثل الإجهاض والهجرة. الأمر الذى أرجعه فريق حملته الانتخابية، المكلوم، إلى إصابة الرئيس بنزلة برد. ووفقًا لاستطلاع رأى أجرته شبكة «سى إن إن» الإخبارية، عقب المناظرة، شعر67% من متابعيها، بأن ترمب، قدم أداءً أفضل، فيما ارتأى 33% فقط أن، بايدن، كان موفقًا. واعترف 57% ممن شاهدوا المناظرة، بتآكل ثقتهم فى قدرة، الرئيس، على قيادة الولايات المتحدة لفترة رئاسية تالية. بينما أعرب 44% عن عدم قناعتهم بأهلية، ترمب، لقيادة البلاد، مجددًا.
كما السيل الجارف، انهالت الانتقادات على، بايدن، بجريرة تصريحاته غير الواضحة وأدائه المرتبك خلال المناظرة. حتى إن مراقبين ديمقراطيين اتهموه بالإخفاق فى استعادة ثقة فاعدته الانتخابية. واعتبر آخرون، أن الأداء الكارثى لبايدن، أثناء المناظرة، قد ولَد ذعرًا هائلًا وقلقًا واسع النطاق داخل الحزب الديمقراطى. فلقد تفاقمت مخاوف القائمين على حملته الانتخابية الرئاسية من أن يسفر أداؤه البائس إبان المناظرة، عن انكماش دعم المانحين والممولين الأساسيين. ومن رحم ذلك الاضطراب، تفجر الجدل داخل أروقة الحزب الديمقراطى بشأن إمكانية مطالبة بايدن، بالتنحى عن مواصلة تمثيل الحزب فى السباق نحو المكتب البيضاوى. وفى هذا السياق، اشتعلت بورصة البدائل بأسماء بدلاء ديمقراطيين كمثل: حاكم إلينوى، جيه بى بريتزكر، حاكم كاليفورنيا، جافين نيوسوم؛ واللذين أيدا بايدن رغم أدائه المخيب للآمال خلال مناظرة أطلانطا؛ فضلًا عن حاكمة ولاية ميتشجان، جريتشن ويتمر.
لا يستبعد كاتب المقال، أن تكون الحملة الديمقراطية قد تعمدت تنظيم مناظرة أطلانطا قبل أسابيع من انعقاد المؤتمر العام للحزب الديمقراطى لتسمية مرشحه الرئاسى رسميًا؛ حتى تبرز عدم أهلية، بايدن، لتمثيل الحزب فى معترك الاستحقاق الرئاسى المزمع؛ بما يعزز المطالبات الملحة والخجولة باستبداله. الأمر الذى لا يعد بدعة فى التاريخ السياسى الأمريكى الحافل بعديد حالات. ففى عام 1952، تخلى الرئيس الأسبق هارى ترومان، عن مواصلة المنافسة على ولاية جديدة، جراء تراجع شعبيته، مع تعاظم ارتدادات الحرب الكورية. وفى ستينيات القرن الماضى، وعلى وقع التداعيات السياسية المريرة لحرب فيتنام، وما تمخضت عنه من اضطرابات داخلية، جنح الرئيس الأسبق، ليندون جونسون، للعدول عن الترشح لولاية ثانية. أما اليوم، فيبقى السجال حول استبدال، بايدن، مرتهنا بتبلور توافق عريض داخل المعسكر الديمقراطى، على هكذا توجه، علاوة على مدى تفهم الرئيس واستعداده للاستجابة لنداء التنحى الطوعى.
رغم تهوين قيادات ديمقراطية من شأن أصداء المناظرة الأولى، وتعهدها بتحسين وضع، بايدن، خلال المناظرة المقبلة، يبقى وقع المناظرة الأولى أعمق وأقرب إلى حسم السباق الرئاسى. ففى سبتمبر1960، استضافت شيكاغو أول مناظرة رئاسية متلفزة بين مرشح الحزب الديمقراطى، السيناتور، جون ف. كينيدى ، ونائب الرئيس والمرشح الجمهورى، حينها، ريتشارد نيكسون. وبينما ظن كثيرون أن خبرة، نيكسون، السياسية وكفاءته فى المناظرات الإذاعية، ستساعدانه على حسم المناظرة لصالحه، كان للمناظرات المتلفزة رأى آخر. فقد بدا، نائب الرئيس، شاحبًا، نحيفًا، وامتزجت ألوان ملابسه مع خلفية استديو المناظرة. وأفضى رفضه استخدام المساحيق التجميلية إلى ظهور ظل، بسبب عدم نعومة لحيته. ونتيجة لأناقة كينيدى، لباقته، تألقه وثباته الانفعالى، حدثت المفاجأة الكبرى، وانتصر فى المناظرة الأولى. وفى عقبها، أظهرت استطلاعات الرأى تحوله من التأخر الطفيف إلى التقدم بقليل عن منافسه العتيد. ورغم نجاح، نيكسون، فى معالجة نفاط ضعفه، وتحقيق تقدم فى المناظرتين التاليتين، فيما شهدت الرابعة تعادلًا، لم يكن وقع نتائج المناظرات الثلاث الأخيرة، بنفس مستوى دوى الأولى. خصوصًا مع انحسار معدلات المتابعة ونسب المشاهدة. ومن ثم، يجوز الادعاء بأن تفوق كينيدى، فى المناظرة الأولى، شكل عاملًا أساسيًا لولوجه المكتب البيضاوى.