التنمية فى حقيقتها عملية شاملة وعميقة وذات بعد تاريخى: تمتد من الماضى البعيد إلى المستقبل المنظور وغير المنظور. فإما أنها شاملة فذلك لأنها ليست فى جوهرها تنمية اقتصادية (برغم الأهمية القصوى للبعد الاقتصادى)، وإنما هى تنمية مجتمعية بحق، تعانق الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة جميعا. وإما أنها عميقة فلأنها تمتد متغلغلة إلى أعماق الأعماق، وفى الاقتصاد بالذات ترنو إلى إحداث تحول هيكلى جذرى فى بنية الناتج المحلى الإجمالى، سعيا إلى تغيير طرائق الإنتاج وطرق العيش، ونظم الإنتاج وأساليبه التقنية فى الإطار التكاملى.
وتؤدى عملية التصنيع فى ارتباطها بالهيكل الاقتصادى والاجتماعى، دورا محوريا فى كل ذلك، بحيث يصير القطاع الصناعى المرتبط بالاحتياجات المحددة للبلاد، المولد الرئيسى لفرص العمل المنتجة، والمشغل الرئيسى، والخادم الأمين، وفى نفس الوقت لتنشيط القطاعين الزراعى والخدمى.
هذا فى الاقتصاد، أما فى الاجتماع فإن التنمية تؤدى دور المهماز النشط لإحداث تحويل إيجابى فى منظومة القيم، منظومة مشرئبة إلى المستقبل، ومرتبطة تشعيبيا بالماضى حتى الماضى السحيق، سعيا إلى بناء منظومة حضارية لا يشوبها نقص ولا يعتريها انقطاع.
التنمية بهذا المعنى تعيد وشائج الربط من الماضى إلى المستقبل، وعلى المستوى العربى مثلا تسهم بجدية فى معالجة آثار «الانقطاع الحضارى».
ذلك الانقطاع الذى اعترى وطننا، أو أوطاننا، منذ الغزوة التتارية وإسقاط بغداد عام 1258، كعاصمة مركزية للعالم الإسلامى العتيد، ثم منذ تحول الوجود التركى فى الدول العربية وما حولها منذ القرن السادس عشر إلى مجرد وجود عسكرى بدون مضمون اقتصادى ــ اجتماعى تطويرى حقيقى لمسابقة الزمن مع أوروبا بالذات.
وأما فى المجال الثقافى فإن التنمية الشاملة العميقة، ينتظر منها أن تسهم فى بناء نسيج فكرى متكامل، يجعل التجدد والتجديد الحضارى أس الأساس فى الثقافة، تربط الماضى البعيد (فى بعده العربى القومى والإسلامى بالمعنى المعانق للمسيحية الشرقية العتيدة) بالحاضر والمستقبل القائم على الازدهار العمرانى والفكرى، بعديْن لا ينفصمان فى «الحضارة» كمفهوم فلسفى شامل.
وأما فى المجال السياسى، الداخلى والخارجى، فالتنمية والتطور المنظومى للحياة السياسية/صنوان لا يفترقان. فالتنمية مرتبطة ببناء نظام سياسى قائم على مشاركة الجميع فى بناء حياة المجتمع (ما يسمى بالديموقراطية) وبناء حياة سياسية نشطة تجعل الإنسان فى مجتمعه، نواة حركة دائبة فى توجهها صعودا وإلى الأمام.
هذه إذن هى التنمية بمعناها التطورى Development عملية Process تعانق كلا من الاقتصاد والاجتماع والثقافة والسياسة، فى بوتقة منصهرة، ليس من أجل مجرد «التقدم» بمعناه الخطى البسيط، ولكن بفحوى التطور الرابط بين الماضى والحاضر، وبين الإنسان الفرد وجماعته الوثيقة، سعيا إلى التكوين القومى ــ الوطنى ذى البعد التنموى الشامل والعميق ثم ذى البعد التاريخى الأصيل. وهنا نأتى إلى الوشيجة القوية لعملية التنمية، فى امتدادها الأصيل.
فالتنمية بالمعنى الذى نروم، ليست مجرد التقدم الخطى البسيط، كما ذكرنا، وليست مجرد تحقيق الغاية الاقتصادية ممثلة فى التحول الهيكلى المرتبط بالصناعة والتصنيع، ولا مجرد تحقيق الغاية الاجتماعية ممثلة فى تغيير ما للقيم باتجاه الحداثة والتحديث، وخاصة على النسق الأوروبى ــ الغربى.
لا وليست التنمية مجرد تحقيق الغاية السياسية ممثلة فى بناء نظام، حزبى مثلا، ولكن ربط الإنسان بالسلطة، سلطته بالذات، السلطة الشعبية بحق وحقيق. كما أنها ليست مجرد توليد ثقافة (أخرى) مستعارة على الأغلب من الخارج، كأن يقولوا إنها (تنمية بشرية) ترفع مستوى الدخول والقدرات دون امتداد إلى الأبعاد التى ذكرنا فى ترابطها الجمْلى الأكيد.
أو كأن يقولوا إن التنمية هى الحركة الموجهة إلى الحد من مستوى الفقر Poverty Reduction دون فهم واعٍ للمعنى التاريخى للفقر ولعملية استئصاله من الجذور، لبناء مجتمع جديد مستجيب لحاجات الوطن والشعب والجمهور العريض.
لا ليست هذه هى التنمية، وإنما التنمية وهى تتكون كعملية شاملة، عميقة، تاريخية، تربط ماضى البلد بمستقبله. وهى فى بلداننا العربية تصل ما انقطع من نسيج تطورنا الحضارى الذى قطعه التدخل الأجنبى قبل الأوروبى، ثم قطعه أو قل قطعه الاستعمار الأوروبى الحديث. وهى ــ التنمية ــ ليست مجرد «تنمية» ولكنها بالحق عملية موجهة لاستئناف التطور الحضارى لأمة أو أمم غلبت على أمرها زمانا، ثم آن لها أن تنهض نهضة حقيقية، تصل التراث العريق، بالتطور العميق. ولذلك لم نقلْ بمجرد التنمية، ولكن نتطلع إلى «وصْل ما انقطع» فى تاريخنا الحضارى التليد، لاستئناف تطورنا المتصل بالذات.