أحسنت «الشروق» صنعا حين أخذت على عاتقها مهمة الترتيب لعقد مؤتمر للحوار بين القوى السياسية فى هذه الفترة الفاصلة من التاريخ السياسى المصرى الحديث.
وإذا كان لنا ان نسهم فى عملية التحضير الفكرى لهذا المؤتمر المهم، سعيا إلى اقتراح «أجندة عمل» للمؤتمر، والعمل على إعداد مجموعة من «الأوراق الخلفية» الأساسية حول البنود محل البحث والتفاوض، ويفضل أن يتم ذلك من منابع فكرية متنوعة، فإننا نقتصر من جانبنا على ضرورة توجيه النظر إلى قضيتين مهمتين ينبغى أن يفتح النقاش على مصراعيه حول ما تتضمنانه من أبعاد.
القضية الأولى هى البعد الاقتصادى-الاجتماعى لعملية وضع السياسات العامة وصنع القرارات التنموية، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه «الاقتصاد السياسى» لممارسة السلطة العامة.
أما القضية الثانية فتتعلق بالبعد «الوطنى» للتحالفات المحتملة بين القوى السياسية. وهذا البعد مستمد من اعتبارات حفظ الكيان الوطنى فى المرحلة الراهنة، وما يتصل بذلك من أهمية تحديد الخطوط الفاصلة فى مجال الموضوعات محل التحالف، وتعيين أطراف التحالفات، والمدى الزمنى المتوقع للعمل الجبهوى، والغايات المستهدفة. ويرتبط بذلك، تعيين الحدود الضرورية بين مقتضيات «حرية المواطن» وموجبات «حرية المواطن».
وإذا كانت القضية الأولى تعتبر بمثابة «الحدود الداخلية» للحوار السياسى، فإن الثانية تعتبر بمثابة «الحدود الخارجية».
•••
وفيما يلى نحاول المساهمة فى معالجة هاتين القضيتين بدءًا من أولاهما فى مجال «الاقتصاد السياسى». ونرى من أجل المشاركة فى التمهيد للحوار حول القضية المشار إليها، أن نشير على سبيل التمثيل، إلى حادثين اقتصاديين وقعا فى الفترة الأخيرة ونراهما مؤثرين سلباً على مسيرة العدل الاجتماعى الحقيقى:
(1)رفع أسعار الأسمدة المورّدة إلى الفلاحين والمزارعين الصغار، من شركات القطاع العام المنتجة للسماد (من اليوريا والنترات) بنسبة 33%. وقد تم ذلك- فيما يبدو- بضغوط من الشركات المنتجة، وإن كان يمكن للحكومة الإبقاء على السعر المدعم، مع تعويض الشركات المذكورة عن الخسارة الناجمة عن الفارق بين أسعار البيع النهائى والتكلفة الحقيقية للإنتاج وخاصة بعد رفع أسعار الغاز.
(2)رفع أسعار مشتقات البترول والغاز الطبيعى، وخاصة وقود المركبات، دون تفرقة بين مالكى ومستخدمى تلك المركبات على اختلاف الأغراض والنوعيات والطّرُز والسعات اللترية وسنوات الصنع، ودون تحديد حد أدنى معين للبيع بالسعر المدعوم للفئات الاجتماعية «محدودة الدخول».
هذا فضلاً عن اللغط حول قانون الضريبة العقارية، ورفع أسعار الكهرباء على بعض «الشرائح» المستهلكة، ودع عنك الآثار المتدحرجة لرفع تكلفة الطاقة على معدلات التضخم السعرى وخاصة للسلع الغذائية وخدمات النقل. ولا نذكر الارتفاع غير المبرر للرسوم بالمدارس الخاصة على اختلافها، وغير ذلك مما له أثر ذو طابع تدميرى اجتماعياً على (الفقراء) ومن إليهم من أشباه الفقراء فى الطبقة المتوسطة. وهنا ندلف مباشرة إلى القضية الثانية التى تتشابك عضويا مع الأولى، من حيث أن افتقاد بُعدْ العدل الاجتماعى فى السياسات الاقتصادية المتبعة، يمكن أن يتحول إلى منفذ لتشكيل تحالفات سياسية (معارضة) من بين قوى متباينة، بما قد يمس سلبا بـ«الكيان الوطنى»، كحد خارجى ضرورى للحركة السياسية. ونخص بالذكر هنا تحالفاً محتملاً بين تيار (العنف السياسى الإسلاموى) على تنّوع منابعه الفكرية والتنظيمية، وبين بعض القوى (المدنية) بما فيها بعض شرائح ممن يسمون (شباب ثورة يناير). وليس ذلك بمستبعد فى الظروف المصرية الراهنة، بما يحمله من خطر بالغ على مسار التطور السياسى الراهن والمرتقب، بما فى ذلك العمل على دفع الوضع السياسى القائم حاليا إلى استخدام المزيد من الأدوات الأمنية فى مواجهة المعارضين وممارسى العنف، مما قد يعصف بفرص التحول السياسى باتجاه مزيد من المشاركة الشعبية الحقيقية.
•••
ولنا مثالان عربيان بارزان فى الوقت الراهن على إمكان تشكيل تحالفات سياسية بين قوى متباينة لتحقيق هدف مشترك، بما قد يمس «الكيان الوطنى» سلبا فى الصميم.
المثال الأول:
التحالف بين ما يسمى تنظيم «الدولة الإسلامية» – داعش – فى العراق وبين قطاعات واسعة من العشائر (السنّية) شمال وغرب العراق، وعناصر من الجيش العراقى السابق وبعض القوى السياسية (الوطنية) فى الوسط السنى، وذلك لتحقيق الهدف المشترك وهو كسر شوكة التحالف السياسى الحاكم فى العراق منذ الغزو الأمريكى 2003، والذى كانت محصلته الختامية إشعال فتنة طائفية ومذهبية، حيث بدا الأمر - للأسف - فى صورة طغيان لجماعات من (الطائفة الشيعية) على جماعات من (الطائفة السنية) عرباً وكرداً.
المثال الثانى:
التحالف بين جماعة (أنصار الله) فى اليمن مؤخراً (أو ما يسمون «الحوثيون») وبين جماعة (المؤتمر الشعبى العام ) من أنصار الرئيس السابق، بالإضافة إلى عناصر وطنية متنوعة. والهدف المشترك: كسر شوكة المنظومة التحالفية المضادة داخل الجيش والشرطة، وإجبارها على الاستسلام دون قتال، كما حدث بالضبط تقريباُ فى موقعة اقتحام «داعش» وحلفائها لمدينة الموصل شمال العراق، ثم التهيئة لتأسيس صيغة سياسية نظامية جديدة فى اليمن.
وربما يؤدى الاصطفاف المزدوج القائم فى اليمن الآن إلى توليد مزيد من فرص الالتقاء بين القوى التى أضيرت من زحف (أنصار الله) على العاصمة صنعاء ومناطق الشمال وفرضهم لصيغة سياسية جديدة من خلال ما يسمى اتفاق الشراكة والمصالحة. ونخص بالذكر من تلك القوى المضارة، حزب ( التجمع اليمنى للإصلاح) الممثل لجماعة «الإخوان المسلمين» وعناصر القاعدة فى وسط وجنوب اليمن. ومن بين النتائج المحتملة لذلك، تقريب فرص الانفصال الرسمى أو غير الرسمى لجنوب اليمن عن شماله، أو ربما فرض منظومة فيدرالية هشة تمهد لتجزّؤ – نرجو الله ألا يحدث- فى اليمن العربى العريق.
•••
فما دلالة الموقفين العراقى واليمنى فى مجال (التحالفات السياسية الخطرة) بالنسبة لمصر الآن، وخاصة مع بروز شواهد على تجربة أولية (بروفة) للتحالفات المحتملة من خلال أحداث (الشغب الجامعى) خلال العام الدراسى الفائت ومطلع العام الحالى؟
إنّا لنعلم أن بعض دوائر محدودة من الشباب تتربص الدوائر بالوضع المصرى القائم، انطلاقاً – ربما – من الحرص البالغ على ما تبقى من (ثورة يناير 2011) والخشية من عودة (نراها مستحيلة) للنظام المباركى، وخاصة مع انطلاق حملة مسعورة من بعض أبواق الإعلام المصرى ضد عدد من رموز (الشباب) بحق أو بغير حق، بسند موثق، أو بدون سند.
كما نعلم أن بعض دوائر (الإسلام السياسى) وخاصة «تيار العنف الإسلاموى» تكابد مرضاً لا شفاء منه، فلا أمل يرتجى فى اللحظة الراهنة لتقريبها نحو وئام مجتمعى وسياسى حقيقى، والأمر متروك للزمن المتوسط أو الطويل من أجل مداواة الجروح.
كما أننا نعلم أيضا أن بعض دوائر «الوضع القائم»، لا تملك الحسّ السياسى الحقيقى للتعامل مع المتغيرات المحيطة، برغم إقرار الدستور (المعدل) الجديد، وانتخاب رئيس الجمهورية بما يشبه الإجماع الشعبى التام أو ما هو قريب من ذلك. ونعلم على وجه الخصوص أن بعض تلك الدوائر المحيطة بالوضع القائم تفتقد الإدراك السياسى لعواقب سياساتها الاقتصادية المجافية فى عدد من جوانبها للمصالح الاجتماعية لذوى الدخول المحدودة والمشتغلين الفقراء وأشباه الفقراء.
فما الحل؟
هل يرعوى الحلفاء الخطرون المحتملون (من تيار العنف الإسلاموى وبعض شرائح الشباب وقوى سياسية متنوعة)، بعيداً عن (تأبط الشرّ)؟
وهل يسعى بعض أهل السلطة إلى اكتساب واستخدام ما ينبغى من الحصافة والفطنة لاتقاء مكامن الشر المحتمل؟
هذا ما نرجوه، ونأمل أن يفتح الحوار السياسى حول ماسبق، وغيره، مزيدا من أبواب الأمل نحو صنع مسقبل أكثر إشراقا.