قتل نظام مبارك السياسة فى مصر طوال 30 عاما، لكنه لم يقتل إرادة المصريين، جاء كل تأثيره السلبى فى النخبة والأحزاب السياسية التى صنعها على عينه طوال العقود الثلاثة التى قضاها جاثما على الصدور، لم تثبت النتائج الأولية للمرحلة الأولى من الانتخابات أكثر من ذلك، الأحزاب العتيقة الكبيرة التى كانت تسمى فى خطاب صفوت الشريف القوى السياسية الكبرى سقطت سقوطا ذريعا أمام أحزاب لا تتجاوز أعمارها المائة يوم، فيما تلك الأحزاب تتباهى بعراقة تأسيسها، وتتشبث بتاريخ منسوب لأسمائها.
أدرك الجمهور المصرى أن تلك الأحزاب إن كان لها وجود فى السنوات الثلاثين السابقة، ربما كانت توفر على المجتمع كثيرا من الكوارث والأزمات والمحن، لكنها رضيت أن تكون جزءا من النظام كما كان صفوت الشريف نفسه يتباهى بذلك، أى أنها كانت تلعب أدوارا محددة ومرسومة وكل هذا التصور انعكس واضحا فى الصناديق.
وعندما سقط النظام كنت أدعو لإسقاط معارضته «الرسمية وشبه الرسمية» ليس نكاية فى أحد ولكن لأننى كنت أعرف أننا فى مرحلة لابد أن نؤسس فيها لبدائل مختلفة كلها صالح وجاهز، دعوت إلى تجديد شرعية هذه الأحزاب بإصلاحات كبرى وتغييرات هيكلية، تستبعد أولئك الذين تربوا فى أحضان «أمن الدولة» وألفوا ألاعيبها، وارتضوا بخدمتها، وكان هذا الجهاز الأخطبوطى الحاكم والمؤثر صاحب القرار فى صعود القيادات داخل هذه الأحزاب أو إسقاطها.
كانت هذه الدعوة من أجل هذا الوطن، لكن البعض أخذته العزة بالإثم وتخيل أن الجماهير تتهافت على اسمه، وأن بضعة بيانات بلاغية ساخنة تكفى ليقنع الآخرين أنه كان معارضا شرسا لمبارك فيما جميعهم كانوا وكأنهم موظفون فى دولة مبارك على درجة رؤساء أحزاب، ويمارس الدور نفسه بعد فشله الآن بالبحث عن شماعات واهية.
إذا كان من مصلحة مصر أن تكون فيها ثلاث كتل رئيسية كلها تستمد شرعيتها ووجودها من الشارع ومن التاريخ السابق على ثورة يوليو، وهى التيار الإسلامى والتيار الليبرالى واليسار المصرى، فقد وجد التيار الإسلامى من يحمى مشروعه طوال أكثر من 80 عاما رغم الضغط والحظر والاعتقالات والمحاكمات، فيما أضاعت الأحزاب الأساسية على الجانبين الآخرين مشروعيهما بالارتماء الكامل فى حضن السلطة والرضا بخدمتها وفقط، والتعامل مع الوقائع بعد الثورة بأسلوب تجارى بحت عنوانه المكسب والخسارة دون اعتبار لمبادئ أساسية أو قناعات أو حتى حركة حقيقية فى الشارع.
لذلك لم يكن مستبعدأ أن تخرج تيارات سياسية حديثة العهد لتملأ هذا الفراغ قدر الاستطاعة، وتحقق فى 100 يوم ما لم تحققه هذه الأحزاب «الكبرى» فى 30 عاما، التى لم تتعلم دروس الثورة، التى أسقطت النظام وكان لابد أن تسقط معه واجهات هذه الأحزاب، التى باعت وهم الديمقراطية للعالم بمساندتها نظام مبارك قبل الثورة، وباعت وهم الشعبية لأعضائها وللمراهنين عليها بعد الثورة، حتى خرجت الصناديق بالحقيقة الصادقة.