مثل العديد من المتابعين للسياسة الخارجية والممارسين فيها، ركزت فى مناقشاتى فى خلال الأسابيع الأخيرة على النتائج المحتملة للانتخابات الأمريكية الرئاسية أولا، ثم على السياسات المتوقعة للرئيس المنتخب جو بايدن، وانصبت ملاحظات وأسئلة المشاركين فى الحوارات المختلفة التى شاركت فيها على المواقف المتوقعة من أمريكا التى ترتبط بالمناطق التى ينتمون إليها وبشكل أكثر تحديدًا بالنسبة لى على الشرق الأوسط والعالم العربى. فى حين أن هذا ليس استثناءً، فإننى أقدر أن عصر العولمة لا يسمح بعزل منطقة عن أخرى بسبب الاعتبارات الخاصة للتواصل الاجتماعى والتقدم التكنولوجى الذى يضع مفهوم المساحة والتحديد الجغرافى على المحك.
وقد لاحظت فى العديد من الحوارات التى شاركت فيها عدة مرات، توافقا فى حديث الشخصيات السياسية الأمريكية المشاركة، وهم سياسيون خارج إدارة ترامب، من الحزبين الديمقراطى والجمهورى، فلم يختلف المشاركون من الأحزاب التى انتهت توا من التصارع والتنافس حول من يفوز بمنصب الرئيس الأمريكى وبالأغلبية فى مجلسى الكونجرس الأمريكى، كان هناك توافق بأن على الولايات المتحدة والإدارة الجديدة الاستماع بعناية إلى وجهات نظر ومواقف الحلفاء وغيرهم قبل اتخاذ قرار بشأن سياستها فى المستقبل، لتقييم الوضع فى مختلف الساحات بشكل جيد، تجنبا للانغماس فى مغامرات غير محسوبة ومحاولات غير ناجحة وواقعية اعتادت عليها لحل او حسم قضايا وفقا لرؤيتها فقط او غير قابلة للحل فى الوقت الحالى.
وانصب هذا الحديث بشكل أساسى حول منطقة الشرق الأوسط فى ثلاث قضايا رئيسية، أولها المحاولات الفاشلة لتغيير الأوضاع ومعايير الحكم فى الشرق الأوسط، والمقصود هنا تحديدا جهود نشر الديمقراطية من عدمه، والثمن الباهظ لهذه الجهود على الأمن والاستقرار للمصالح الأمنية للولايات المتحدة فى الشرق الاوسط، وعلاقاتها مع العديد من حلفائها وأصدقائها.
القضية الثانية فى هذا الإطار كانت الدور الأمنى والعسكرى للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، حيث وصلت امريكا من جانب الحزبين الجمهورى والديمقراطى إلى مرحلة الإرهاق العملياتية، بعد السياسات الفاشلة التى أعقبت الإطاحة بنظام صدام حسين، ومحاولاتها لوضع أسس للنظام العراقى غير مرتبطة بالواقع الوطنى، وينتظر أن يكون لهذا الفشل انعكاس على استعداد الولايات المتحدة الإسهام لضبط الأوضاع فى ليبيا.
وفى تقييد حركتها فى المشرق، وكذلك فى الدعم الذى يمكن أن تقدمه بالنسبة للوضع فى اليمن والتحالف العربى عسكريا، فضلا عن أنه سيكون له تداعيات أيضا على قوة وصلابة الموقف الأمريكى من التصدى إلى سياسات الهيمنة لإيران وتركيا، وكان ينطبق هذا على السياسات الأمريكية حتى فى حالة فوز ترامب بولاية ثانية، الفرق الرئيسى بين بايدن وترامب هو أن الأول أكثر دبلوماسية مع إيران والاتفاق النووى خاصة بالتعاون مع أوروبا والعودة إلى المنظمات فى حين انه اكثر سلبية تجاه تركيا، اما ترامب فهو أكثر حدة مع إيران وأقل صداما مع تركيا، ومع هذا لم يكن يعتزم التصدى لإيران عسكريا، إذا استمر رئيسا بصرف النظر عن أنه قد يلجأ لأعمال عسكرية او أمنية محدودة سريعة ضدها قبل تركه البيت الابيض من أجل تصعيد الموقف وخلق صعوبات فى مواجهة أى محاولة للتوصل إلى اتفاق إيرانى أمريكى فى المستقبل القريب.
القضية الثالثة فهى تتعلق بحل النزاعات الإقليمية فى الشرق الأوسط، ومنها النزاع الفلسطينى الإسرائيلى والوضع فى المشرق وسوريا، والمنافسة الإيرانية العربية، خاصة مع دول الخليج العربى، وكذلك التوترات القائمة بين الإسلام السياسى ومؤيدى مفهوم الدولة الوطنية القومية.
كما لاحظت من متابعة الحوار فى الساحة الأمريكية، أن ترامب والحزب الجمهورى يتحدثان عما يسمى بالحالة الأمريكية الاستثنائية والمميزة، بمعنى اخر انها قصة نجاح مميزة وفريدة يجب أن يحتذى بها، ويكررون ذلك فى نفس الوقت الذى يدفعون بسياسات تتسم بالمزيد من الانعزالية والانكماش عن مسئولياته الدولية.
والطريف أن الحزب الديمقراطى فى عهد أوباما والآن بعد فوز بايدن بالانتخابات يتحدث عن الاندماج فى المنظومة الدولية ومؤسساتها وعن مسئولية الولايات المتحدة كدولة كبرى وهذا توجه صادق وجاد بالفعل خاصة بالنسبة لاتفاقية المناخ ومنظمة الصحة العالمية وغيرها، إلا أن الذى يؤكده الحزب الديمقراطى فى نفس الوقت مزيدا من السياسات الانعزالية وتبنى الولايات المتحدة لسياسات أكثر واقعية، ويفتح المجال لدراسة التراجع، او على الاقل التريث قبل السعى لحل جميع القضايا الاقليمية حيث يصعب حل بعضها، كالصراع الفلسطينى الإسرائيلى وغيرها، الذى يفضل تركه للأطراف الإقليمية، وهو ما طرحته إدارة أوباما وبايدن عندما تركت جهود السلام إلى وزير الخارجية كيرى دون تدخل او دعم حقيقى من البيت الأبيض، و تزامن ذلك مع إعلان اوباما بأن الوقت قد حان لإيران والمملكة العربية السعودية للاتفاق على كيفية التعامل معه.
واستخلص من كل ذلك، أن هناك توجها أمريكيا عاما يتجاوز المواقف الحزبية، ويدعو إلى تجنب الدخول فى النزاعات الإقليمية أو القضايا التى لا تشكل خطرا على الولايات المتحدة ولا تحقق مصلحة أمريكية مباشرة على المدى القصير، والفارق الوحيد هو أن الحزب الجمهورى يضع هذا تحت عنوان أمريكا أولا، بينما أن الحزب الديمقراطى يضع توجهه الانعزالى والانكماش تحت عنوان يبدو بناء أو أكثر جاذبية ألا وهو العودة إلى المنظمات الدولية.
لذا اتوقع ان نشهد من بايدن فى أول الأمر مرحلة فك او عدم اشتباك امريكى فى سياستها وعملياتها فى الساحات الإقليمية، دون ان نشهد انسحابا امريكيا من مختلف الساحات الدولية، باعتبارها دولة عالمية كبرى لا تستطيع فعليا الانسحاب من ساحات كثيرة او الغياب طويلا، وسيشجع ذلك على انتشار النفوذ الصينى والروسى فى ساحات كانت تقليديا مناطق نفوذ أمريكية قبل تكثيف المنافسة بين الدول الكبرى مرة أخرى، وقد ينضم لهذا التنافس بعض الدول الاخرى، وانما هذا موضوع للحديث آخر.