مهمة ثقيلة حقا، وآمال عريضة، تلك التى نعلقها على عاتق وزارة الصناعة والتجارة المصرية، أن تكون مثلما كانت وزارة التجارة الدولية والصناعة فى اليابان، والتى تسمى ــ اختصارا ــ باللغة الإنجليزية MITI (ميتي) تلك التى اعتبرت، ولم تزل، بمثابة «العقل الاستراتيجى» للصناعة اليابانية، وخاصة إبان انطلاقتها التنموية المشهودة، وهو ما يسعى إلى مثله فى بلادنا السيد رئيس الجمهورية ابتداء من مشروعاته الوطنية الكبرى.
وقد كنا نشرنا منذ فترة وجيزة مقالا بعنوان (أين الصناعة يا رئيس الوزراء...؟) ، ولما لم يجبْ علينا أحد من قبل رئيس الوزراء، فقد ارتأينا أن نتوجه بالخطاب اليوم إلى من يهمه الأمر مباشرة، أى وزير الصناعة والتجارة؛ فهل له أن يجيبنا عن السؤال الحائر؟ ونزيد فنتساءل عما إذا كان هناك فى مصر الآن جهة مسئولة تستطيع الزعم بأنها تمثل «العقل الاستراتيجى للصناعة المصرية» خير تمثيل..؟
ولما كنا نعلم أن وزارة الصناعة قد أعدت وثيقة استراتيجية للصناعة، وللمشروعات الصغيرة والمتوسطة، كما أعلنت أخيرا عن (استراتيجية) لصناعة السيارات، وطبقت نوعا من المساندة التصديرية ودعم الصادرات، وأعدت مشروع قانون حول التراخيص الصناعية؛ فإننا نود أن نضيف إلى الجهود الجارية جهدا آخر.
وهل يسمح لنا القائمون على أمر الصناعة بأن نعرب عن التمنى بأن تكون لدينا فى مصر خطة انتقالية للتنمية الصناعية على غرار «برنامج السنوات الخمس للصناعة» الذى وضع عام 1957 ثم جرى إدماجه فى الخطة الخمسية الأولى للتنمية الاقتصادية والاجتماعية (1960/61ــ1964/65)؟.
لقد كان ذلك البرنامج علامة فارقة فى مسيرة التصنيع المصرية التى لم تزل شواهدها شاخصة حتى الآن. ولكن مياها كثيرة جرت فى الأنهار منذئذ، وتغيرت الظروف المحلية والعالمية جذريا فكيف يمكن أن نستأنف التطور الصناعى فى ظرف جديد..؟.
•••
ولما كان قوام التخطيط تحديد الهدف، ووسائل الوصول إليه والموارد اللازمة، والمدى الزمنى للتنفيذ، فلذلك نأمل من المخطط الاستراتيجى المصرى، إنْ وجد، أن يحدد من خلال الجهاز التخطيطى بمستوياته المركزية واللامركزية، أهدافا معينة قابلة للتطبيق فى ظل سلم للأولويات القطاعية منبثق من الظروف والحاجات المصرية، وأن يبين الوسائل والموارد، والمدى الزمنى، وأن يلحقه بنظام للمتابعة والتقييم، وعلى أن يتم ذلك فى إطار من خطة وطنية تنموية شاملة، ليستحق ــ عن جدارة ــ وصف «المنظومة التخطيطية».
وفيما يلى نسهم، بقدر ما، فى إلقاء الضوء على عناصر مقترحة للخطة الاستراتيجية المرتجاة للصناعة المصرية.
لنبدأ بالهدف العام، فى ضوء الظروف والاحتياجات. والهدف الصناعى مشتق من الغاية التنموية الكلية وهى إحداث التحول الهيكلى للاقتصاد المصرى باتجاه رفع المساهمة النسبية للقطاعات الإنتاجية ذات الأولوية فى توليد الناتج المحلى الإجمالى، وفى مقدمتها الصناعة التحويلية والخدمات العلمية والتكنولوجية، مع إعطاء الأسبقية لتلبية الحاجات الاجتماعية الأساسية من الغذاء والكساء والمسكن والمستوى التعليمى والصحى المناسب.
إن ظروفنا الخارجية المتصلة بالأوضاع الراهنة للنظام العالمى لا تسمح بتوسع صناعى موجه بصفة أساسية للتصدير على غرار ما تم فى منطقة شرق آسيا خلال مراحل سابقة؛ ثم أن احتياجاتنا تفرض علينا ترشيد استخدام العملات الأجنبية المتوافرة، بدءا من تنظيم الاستيراد وتحقيق التوازن النسبى للميزان التجارى، فيلزم إذن أن تعطى الأولوية للتصنيع المحلى لبدائل الواردات، على مدى عريض يمثل الفئات السلعية ذات النصيب النسبى الأكبر فى هيكل الاستيراد، سواء من المستلزمات الوسيطة، أو الآلات والمعدات الإنتاجية، والأجهزة الكهربائية من السلع الاستهلاكية المعمرة، ووسائل ومعدات النقل، والكيماويات والأدوية. وقد عرضنا لهذه النقطة بشىء من التفصيل الرقمى فى مقام آخر، ونزيد اليوم أن أحدث البيانات عن ميزان المدفوعات للعام 2015/2016 تفيد بارتفاع العجز فى ميزان التجارة السلعية، نتيجة للنقص فى الصادرات عن العام الذى سبقه بمقدار 3.5 مليار دولار، مما يوجب الإسراع فى وضع وتطبيق المخطط الصناعى لبدائل الواردات.
•••
وبودنا فى هذا المقام أن تضع وزارة الصناعة أهدافا رقمية محددة لتصنيع السلع الأساسية الموجهة لسد الاحتياجات المحلية فى جميع المجالات، وفق قواعد الحساب الاقتصادى كلما كان ذلك ضروريا، بدءا من (تصنيع الإبرة والمسمار) ــ إذا صح هذا التعبير ــ إلى الأقمار الصناعية الصغيرة ومعدات صواريخ الإطلاق. ولْتتضمن الخطة السلعية البدء بتصنيع بعض مكونات محطات الطاقة، على اختلافها، ومعدات مصانع الغذاء، والغزل والمنسوجات والملابس الجاهزة، ومستلزمات البناء والطلاء، ومحطات معالجة المياه وتحلية الماء، ولوازم الطاقة الكهربائية الصناعية والمنزلية. كما يمكن أن تشمل القائمة تصنيع المزيد من الأجزاء المتطورة تكنولوجيا لآليات نقل البضائع وسيارات الركوب، وكذا المكونات الالكترونية الأساسية للأجهزة الصناعية والطبية، و(معدات وآلات الورش) Machineــtools لأغراض القطْع والسبْك والخراطة والتفريز وغيرها.
كما ينبغى أن يتم كل ذلك فى إطار منظومة متجانسة للسياسات المالية والنقدية، لا سيما التعريفة الجمركية على الواردات من الأطقم المفككة المعدة للتجميع، وخاصة فى القطاعين الفرعيين لكل من وسائل النقل، والأجهزة الكهربائية والإلكترونية، وكذا سياسات الائتمان المصرفى وأسعار الفائدة التفاضلية.
هذا كله عن الأهداف. أما عن الوسائل والموارد، فإنه يجب أن تجرى عملية منسقة لحصر الإمكانيات المتاحة لدى القطاعين العام والخاص فى مصر، سواء من المشروعات الصغرى والصغيرة أم المتوسطة والكبيرة، ولدى قطاع الإنتاج الحربى بالذات، بقدراته الهائلة فى التعميق الصناعى عبر الزمن، ولدى «الهيئة العربية للتصنيع العسكرى». وينبغى هنا أن يتم تحديد القدرات العلمية والتكنولوجية المتاحة، بصورة دقيقة، بشرية كانت أو عينية، صلبة أو ناعمة، بالتعاون بين كل من هيئة التنمية الصناعية وأكاديمية البحث العلمى والجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء ومركز المعلومات بمجلس الوزراء ووزارة قطاع الأعمال العام.
•••
لما كانت احتياجاتنا من السلع المصنعة كبيرة نسبيا من حيث الحجم ومن حيث القيمة النقدية، وكثيرة العدد، بينما قدراتنا المحلية محدودة، ولما كانت ظروفنا الخارجية لا تسمح بافتراض دخول استثمارات أجنبية على نطاق واسع فى الفترة القادمة، على الأنموذج الصينى مثلا، فلا مفر إذن من الاعتماد بصفة أساسية على استخدام طريقة «اتفاقات وعقود التراخيص» License agreements& Contracts مع الشركاء الأجانب، وخاصة تراخيص المعرفة ب«أسرار الصنعة» Knowــhow وذلك مع الشركات الأجنبية الكبيرة والصغيرة، عابرة الجنسيات وغيرها، تلك الحائزة للتكنولوجيا المتطورة والموردة للمكونات الدقيقة، وخاصة من روسيا ومن الدول أعضاء الاتحاد الأوربى (ألمانيا وفرنسا وايطاليا) وكذا بريطانيا..! وربما اليابان وكذلك الصين وكوريا الجنوبية، إن أمكن، مع عدم استبعاد الولايات المتحدة الأمريكية.
أما عن المدى الزمنى فإنه يلزم وضع توقيتات ملزمة للإنتاج السلعى على مدى خمس سنوات كفترة انتقالية ضرورية من أجل التحول نحو التصنيع الحقيقى، ومن ثم اللحاق بركب «الدول الصناعية الجديدة».
ولتكنْ حملة وطنية كبرى لتفعيل مشروع عتيد من أجل (تصنيع الآلات والمعدات الإنتاجية) بما فيه الانتقال من تجميع الأجهزة إلى إنتاج المكونات، وخاصة المكونات الإلكترونية الأساسية، بالتعاون التكنولوجى الدولى مع الشركاء المحتملين من جميع الأطراف، أى إنجاز مهمة التعميق الصناعى بصورة حقيقية.
وألا هل بلغنا...؟ اللهم فاشهد... !