قبل اختياره رئيسا لكلية الملكة بجامعة كامبريدج علق الدكتور محمد العريان الاقتصادى العالمى المصرى الأصل فى حديث للـ«بى بى سى» على أزمة الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى بقوله: إن العلاقة بين بريطانيا وأوروبا لم تكن علاقة الزواج الذى لا ينفصم، بل كانت أشبه بالعلاقة الغرامية التى تنتهى بعد فترة. وقد شهدنا أخيرا نهاية الفصل الأول لهذا الخروج والذى امتد لثلاث سنوات ونصف فى شد وجذب بين أنصار البقاء ودعاة الخروج ثم انتهى بهزيمة ساحقة لمعسكر البقاء ولحزب العمال وانتصار كاسح لقوى اليمين المتشدد والليبراليين الجدد فى حزب المحافظين الذين تزعموا حملة الخروج. وبذلك بدأ الفصل الثانى وهو تنفيذ الخروج على يد «بوريس جونسون» السياسى البريطانى المعروف بالدهاء والرياء والكذب الصراح. ويتوقع قطاع واسع من المفكرين والاقتصاديين أنه سيجر ويلات كثيرة على الاقتصاد البريطانى وسيجعل من إنجلترا تابعا ذليلا للنمطية الأمريكية وسيضعف الاتحاد الأوروبى، وذلك أحد أهداف السياسة الأمريكية التى يقلقها تنامى قوة أوروبا بزعامة ألمانيا وتسعى لإضعاف الكيانات الكبيرة لتظل على قمة الهرم الدولى.
ويمكن القول إن هذا الخروج هو الثانى فى تاريخ المملكة المتحدة حيث وقع الخروج الأول من خمسة قرون عنما انفصل هنرى الثامن بإنجلترا عن كنيسة روما الكاثوليكية بدعوى رغبته فى تطليق زوجته كاثرين الأراجونية، فغير العقيدة الدينية ونصب نفسه رئيسا لكنيسة إنجلترا الإنجيلية، وضحى فى سبيل ذلك بكثير من أصدقائه قبل خصومه كان أشهرهم فيلسوف اليوتوبيا توماس مور الذى رفض الاعتراف بفصل الكنيستين وبشرعية الطلاق. لكن المؤرخين التفتوا إلى مقدمات سبقت هذا الانفصال كدعوات الإصلاح الدينى والاستقلال عن روما، وهو ما هيأ المناخ لهنرى الذى كان يتململ من سيطرة الكنيسة الإيطالية ويرغب فى التحرر من أعباء الالتزام المالى نحوها. ويمكن القول إن بريطانيا كانت دائما ترى نفسها فوق الجميع وترفض أن تكون عضوا مساويا لباقى الأعضاء فى المنظومة السائدة أيا كانت. وقد نتج عن ذلك الانفصال اضطراب هائل ليس فى الكنيسة وحدها ولكن فى الأوضاع السياسية والمجتمعية استمر لعدة عقود إلى أن استقرت الأمور للكنيسة الإنجيلية فى عهد إليزابيث الأولى الابنة الثالثة لهنرى. لكن بريطانيا غرقت بعد ذلك فى حمامات دم استمرت ما يقرب من مائة عام بين أنصار الكنيستين ثم امتدت إلى جوهر الديمقراطية حين شن الملك تشارلز الأول الحرب على البرلمان دفاعا عن حقه فى الاستبداد بالحكم وخسرها وانتهى الصراع بإعدامه.
***
وحين فاز دعاة الخروج من الاتحاد الأوروبى حديثا بأغلبية ضئيلة ظهر الانقسام الحاد فى بريطانيا ودارت معركة ضارية، استمرت على مدى ثلاث سنوات ونصف بين مؤيدى الخروج الذين سعوا للتعجل باغتنام فرصة الانتصار المحدود، وراغبى البقاء الذين شعروا بالغبن وبخطورة ما سيحدث. وشق الانقسام حزبى المحافظين والعمال من الداخل وامتد إلى الصحف ودوائر الرأى وفرق بين أبناء الأسرة الواحدة. وظهر دور البرلمان جليا فى معارضة مبدأ الخروج وشروطه. ومرت الديمقراطية البريطانية باختبار قاس حيث ظهر التناقض التاريخى بين الحكومة كسلطة تنفيذية وبين البرلمان كسلطة رقابية وتشريعية، واتهم رئيس الوزراء البرلمان بأنه يعطل القرار الديمقراطى للشعب بالخروج، ورد البرلمانيون عليه بأن الذين صوتوا للخروج لم تتوافر لديهم المعلومات الكافية عن النتائج وأنه يدفع بالبلاد إلى خطر غير محسوب، ودافعوا عن دورهم الديمقراطى. وقد حاول بوريس جونسون التخلص من المعارضة بتعطيل البرلمان ليتسنى له تمرير اتفاقية الخروج فما كان من البرلمانيين إلا أن لجأوا للمحكمة العليا التى أيدت الديمقراطية وحكمت بعدم دستورية تعطيل البرلمان. وهنا لم يجد جونسون حلا إلا اللجوء لإجراء انتخابات سريعة وكانت مغامرة خطيرة. لكن الشعب البريطانى الذى أنهكه الانتظار لعدة سنوات لم يعد قادرا على تحمل هذه الدوامة، فأعرض عن برنامج إصلاحى ممتاز لحزب العمال وألقى بمصيره فى حجر «بوريس جونسون» الذى أجمع كل المعلقين على أنه غير جدير بالثقة. وثبت مرة أخرى أن الجماعة لا عقل لها وأن الناس فى النهاية يفضلون الراحة حتى لو كانت ظاهرية.
وحين هدأ الغبار تبين فى كثير من التعليقات أن الأزمة ليست جديدة، وأنها تكرار لما مرت به بريطانيا من قبل وأن الساسة حاولوا علاجها تقريبا بنفس التحليلات والاختيارات، وأنه لا جديد تحت شمس لندن الباهتة.
فعلى اليمين يظل دعاة التراث الإمبراطورى يرفضون أن تكون بريطانيا جزءا من كل ويريدونها محتفظة بحرية الحركة والمناورة فى المعترك الدولى والاقتصادى دون التزامات أو قيود، ويريدون فى الوقت نفسه أن تكون الساحة الداخلية مفتوحة لهم ليستمروا فى استغلال الشعب البريطانى ــ اللامبالى فى معظم الأوقات ــ دون قيود الاتحاد الأوروبى مثل حقوق الإنسان وما إليها. أما دعاة البقاء فى اليمين المحافظ فكانت دعوتهم أن الدنيا تغيرت وأن شمس الإمبراطورية التى غربت لن تعود وأن الأفضل أن تكون بريطانيا أخا أكبر فى كيان كبير يحميه وتستطيع التأثير فيه وتستطيع أن تبعد شبح الحرب التى لازال بعض من خاضوها أحياء يصارعون الشيخوخة والذكريات.
أما على اليسار فالانقسام كان أكثر إيلاما فدعاة الخروج كانوا دائما رافضين أن تكون بريطانيا تحت تأثير ديمقراطية خارج البرلمان البريطانى وهم مثل دعاة اليمين كانوا يتوجسون من تعاظم دور الآلية الديمقراطية فى البرلمان الأوروبى التى ازدادت قوة فى السنوات الأخيرة وأصبحت تهدد استقلالية القرار الإنجليزى، إلى جانب أنهم كيساريين تقليديين كانوا رافضين لوجود بريطانيا فى نادى الرأسمالية الأوروبى. أما دعاة البقاء فقد حرصوا على استمرار المكاسب الاقتصادية التى أتاحها الاتحاد الأوروبى، وحرية الحركة والسفر والروح الجديدة التى خلقت مجالا حيويا دافئا أنعش نمط الحياة وأبعد شبح الحرب عن أوروبا.
وهكذا اتضح أن الاتحاد الأوروبى ليس إلا مجرد صيغة قد تكون عابرة فى معترك الصراعات الدولية وأن ثقافة السيطرة الإمبريالية لاتزال تفرض نفسها فى النهاية.
***
ويبقى السؤال الحزين لماذا منى حزب العمال بهذه الهزيمة الساحقة؟ وباختصار كانت هناك ثلاثة أسباب رئيسية، أولها حملة شريرة ظالمة شنتها آلة الإعلام الجبارة لتشويه صورة «جيريمى كوربين» رئيس حزب العمال الذى انتخب مرتين من شباب العمال رغم وقوف اتباع تونى بلير على يمين الحزب ضده، وهو اليمين العمالى الذى دخل حرب العراق وتلطخت رايته بدماء الأبرياء. ولم تدخر الحملة جهدا فنزلت من حضيض لحضيض واتهمت رجلا أنفق حياته السياسية فى الحرب على كل صنوف التمييز والتفرقة بمعاداة السامية. العامل الثانى كان حيرة الناخبين والإرهاق الذى تسبب فيه الصراع فقد تعطل كثير من أنشطة النشاط الاقتصادى ترقبا لما تسفر عنه المداولات وفى خضم الانتظار المرهق أفلست شركات وتعطلت صفقات وتوقف بيع البيوت، وتزايد الإلحاح على حل أيا كان. وهكذا فضل البريطانيون وقوع البلاء على انتظاره. أما الأمر الثالث فكان حيرة قائد يسارى أفنى عمره رافضا البقاء فى حلف رأسمالى، فلما وصل إلى مقعد القيادة وجد أعداءه التقليديين يريدون الانقلاب على هذا الحلف استجابة لمطامعهم، وإذا به يجد نفسه فى مأزق صعب مضطرا للدفاع عن موقف كان ضده. يرفض خروجا طالما تمناه ويطلب بقاء لم يكن مبتغاه. ولم يتبق وقت له لشرح القضية للقواعد العريضة فاختار أن يركز على برنامج إصلاحى تاركا قرار البريكسيت للناس، وكانت مقامرة خاسرة عكست أزمة اليسار الأبدية فى الحيرة بين الواقع والنظرية تلك التى دائما ما كلفته الكثير.
ونحن فى مصر علينا أن ندرس ما حدث لأنه قد يتكشف تدريجيا عن أزمة عالمية أوسع سيختلط فيها الحابل بالنابل ولن ينجو فيها إلا القادرون واضحو الرؤية والغاية، وستكون القاعدة الشعبية المتماسكة شرطا للنجاة فيها.
طبيب نفسى مقيم فى المملكة المتحدة