برحيل إليزابيث الثانية تنتهى مرحلة عريضة من تاريخ المملكة المتحدة والعالم، شهدت فيها مع بدايات عهدها نهاية الحرب العالمية الثانية وتقلص الرقعة الجغرافية للإمبراطورية، واستمرار التأثير البريطانى فى العالم بمعية الولايات المتحدة وما صاحبه من ازدهار اقتصادى انعكس على الحياة اليومية للبريطانيين قبل أن تصطدم الرأسمالية العالمية فى العقود الأخيرة بمشاكل هيكلية بسبب تحرير الاقتصاد وما نتج عنه من ركود، وعودة شبح حرب كونية جديدة.
تعوّد كل البريطانيين الأحياء على وجودها على رأس دولتهم مما أعطى شعورا قويا بالثبات والاستقرار فقد ولد أغلبهم فى عهدها، وكان كل من يقابلها من مواطنيها وضيوفها يخاطبها بكلمة «مام» وهو نطق مدغم لكلمة «مدام» أى سيدتى، التى تعبر عن المسافة التى كانت تحتفظ بها رغم قربها من رعيتها ولكن فى حدود مرسومة بدقة تميزت بالإلمام بكل صغيرة وكبيرة مما كان يدور بالدولة، ووعى واسع بكل أمور المجتمع والعالم دون انخراط معلن فى التفاصيل.
●●●
على مدى سبعين عاما تربعت فيها إليزابيث الثانية على عرش المملكة المتحدة تعاقب على إدارة شئون البلاد نيابة عنها خمسة عشر رئيسا ورئيسة للوزراء، كانوا دائما على صلة وثيقة بها، وكانت تلتقى بكل منهم بانتظام فى اجتماع أسبوعى خاص لا تذاع عنه أية تفاصيل، وكانت تستمع فى هذه اللقاءات لتقاريرهم عما يجرى فى أمور الدولة والعالم دون تقديم رأى أو توجيه. وكان لها مجلس استماع عرف بالمجلس الملكى الخاص هو الذى أعلن غداة رحيلها تشارلز الثالث ملكا. وكانت تضم إليه الوزراء ورجال الدولة السابقين ورجال الكنيسة والجيش، وكانت تعقد معهم اجتماعات دورية مغلقة تناقش فيها كل الموضوعات داخليا وخارجيا وكانت تذهل الحضور بمزيج من الحضور الطاغى وسعة الاطلاع، وكان من أهم شروط هذه المجلس سرية المواضيع والنقاشات فلم يكن مسموحا أن ينشر أى شىء عن آرائها لئلا يؤثر ذلك على مسار السلطة التنفيذية.
لم يكن هذا فقط دور الملكة فمفهوم الملك الذى يملك ولا يحكم تطور عبر عدة قرون بدءا بمحاولات متعاقبة لحل التناقض بين نظرية الحق الإلهى للحكم الذى كان الملوك يتصرفون على أساسه كملاك للأرض وما عليها وبين ضيق البارونات من دفع الضرائب للملوك، ودارت معارك طويلة أدت لانتزاع تدريجى للحريات والسلطات حتى صدرت وثيقة الحقوق «الماجناكارتا» والتى أرست مبدأ الحريات وسيادة القانون الملزم للجميع بمن فيهم الملك، واضطر الملوك المتعاقبون إلى التخلى عن الكثير من صلاحياتهم إلى أن استقر نظام التمثيل الانتخابى للسلطة التنفيذية، وتطور مفهوم الحق الإلهى من الحُكم إلى المُلك وأصبح للمَلك السلطة السيادية، يفوض بها من ينتخبه الشعب لإدارة شئون البلاد، وبذلك أصبح حارسا للدستور يفصل فقط فى الأمور الدستورية، وتصدر القوانين التى يسنها البرلمان باسمه، بعد أن يدققها مجلس اللوردات الذى كان يعينه. وقد يتساءل البعض ما قيمة ذلك ما دام الملك لا يملك سلطة إجرائية؟، إلا أن هذه السلطة الرمزية أصبحت نوعا من تمثيل للمجتمع ككل فبعد أن كان الملك يحكم بالسلطة الإلهية أضيف لذلك أنه أصبح يرمز لسلطة الأمة، وساعد ذلك على ترسيخ مبدأ فصل السلطات، فالقضاء مستقل تحت مظلة الملك الذى لا يتدخل فى أحكامه ولكن تصاغ الاتهامات فى المحاكم الجنائية باسمه كممثل للأمة فى مواجهة من يخالف القانون، وتصدر أحكام القضاء باسمه، كما تصدر التعيينات الرفيعة فى القضاء والجيش باسمه أيضا لأنه رمز الأمة، وهى تطورات أدت إلى إعفاء الملك من مشاكل الحكم وتناقضاته والتى أصبحت تخضع لعملية الاختيار الشعبى، بينما تُرك له دور الجامع الموحد لأطياف المجتمع والحارس على استقلال السلطات.
وقد أتاح العمر الطويل والطبيعة الشخصية لإليزابيث الثانية أن تؤدى دورها بحزم وكفاءة نادرة أهلتها تنشئتها الجادة للقيام بذلك، فاستطاعت أن تقوم بدور الحارس على النظام باقتدار وانضباط شديدين فلم يعرف أنها سمحت لنفسها أن تتدخل فى أى قضية سياسية مهما عظم خطرها. لكن أصابعها كانت دائما على نبض الأمة فكانت تخرج على الناس فى رسائلها السنوية أو فى الأزمات بما يوحد الصفوف ويطمئن النفوس كما حدث فى أزمة الكورونا وفى أزمة الخروج من الاتحاد الأوروبى، وحتى عندما تعاملت مع وفاة الأميرة ديانا بشكل أثار انتقادات الناس خرجت بخطاب ترضية أثلج الصدور.
ورغم هذا الدور المتميز فكثيرا ما خرجت أصوات تنادى بإلغاء الملكية وتدفع بأنه مع استقرار المجتمع والنظام الديمقراطى لم تعد هناك حاجة لرمز ملكى يعيش فى ترف المخصصات الواسعة على حساب دافعى الضرائب، فما كان من الملكة إلا أن استجابت لهذه الانتقادات فقلصت أعداد المستفيدين من أسرتها، وقررت فى لحظة هامة أن تدفع الضرائب مثل باقى الشعب بعد أن شب حريق هائل فى قصر وندسور استدعى ترميمه على حساب الدولة، فأثبتت حيويتها وقدرتها على التكيف مع متغيرات العصر، ما جعل غالبية البريطانيين يشعرون بأهمية الدور المركزى الذى تلعبه الملكية فى تثبيت دعائم النظام الذى يحكمهم ارتكازا على الوعى بكل ما يجرى مع عدم التدخل، بحيث أصبحت الملكة كضمير متجسد للأمة.
●●●
مع تقلص الإمبراطورية فى أعقاب الحرب أولت إليزابيث كثيرا من الاهتمام لدورها على رأس دول الكومنولث، فازداد عدد هذه الدول فى عهدها من سبعة إلى نحو خمسين دولة استبدلت فيها السلطة البريطانية بالرئاسة الأدبية للملكة، ونمت علاقات هذه الدول بالمملكة المتحدة حتى شكل هذا بعض التوتر فى علاقاتها بمارجريت تاتشر التى لم تكن تعطى الكومنولث نفس الاهتمام الذى كانت توليه الملكة لهذا النادى الدولى، والذى أفاد بعض أعضائه مثل الهند وغيرها. وقد زارت إليزابيث كل دول الكومنولث وكثيرا من دول العالم، وهو دور كانت تلعبه بالتعاون مع حكومتها تبعا لمقتضيات المصلحة السياسية لبريطانيا، فكانت زياراتها نوعا من التأكيد على أهمية البلد الذى تزوره وصعودها على سلم الأولويات بالنسبة للمملكة المتحدة. ومما يؤسف له أنها لم تقم بزيارة مصر، وحين سألت وزير التعليم السابق تشارلز كلارك لماذا لم تقم الملكة بزيارة مصر؟ فوجئ بأن ذلك لم يحدث وأعرب عن أسفه لذلك. لكنى أدركت أن ذلك كان انعكاسا لتاريخ العلاقة المستفزة دوما بين مصر وبريطانيا منذ سنين المقاومة العنيدة للاحتلال وحادث دنشواى وثورة ١٩ إلى أخطاء الملك الراحل فاروق أثناء الحرب إلى طعنة زرع إسرائيل على حدودنا إلى هزيمة ٥٦ التى ختمت نهاية الإمبراطورية وتركت جرح السويس غائرا فى الوعى البريطانى، لذلك لم يكن ممكنا أن تزور إليزابيث مصر، ولم تتح الفرصة لرأب الصدع رغم أن بريطانيا تصالحت مع دول كثيرة. وربما تمنت الملكة لو زارت الأهرام لكنها كانت أولا وأخيرا خادمة لبلادها معبرة عن سياساتها. وقد سألت من عدة أشهر سياسيا مصريا نافذا فى حفل تكريم له فى لندن عن آفاق العلاقة بين البلدين، فإذا به يشن هجوما ساذجا على رئيس الوزراء البريطانى مما أحرج الحاضرين وتبين معه أن فهم التحديات التى تواجه هذه العلاقة ربما يكون خارج فهم بعض الساسة فى الخارجية المصرية، ويبقى الأمل أن الملك الجديد تشارلز من المحبين لمصر ورغم أن زيارته الأخيرة لمصر لم تحظ بإعداد جيد إلا أن هناك فرصة هامة لميلاد صداقة جديدة، فبريطانيا تظل مرتكزا دوليا هاما كان يجب تدعيمه عبر العقود السابقة.
على الصعيد الإنسانى، كان للملكة الراحلة أسلوب خاص فى التقرب لرعاياها، مثل برقية التهنئة لكل من يبلغ المائة، وروحها المرحة مثل اشتراكها مع جيمس بوند فى حفل الألفية. لكنى أتذكر واقعة دالة، كان من عادة الملكة أن تخرج لشرفة قصر باكنجهام لتحية الجماهير المحتشدة فى المناسبات وفى معيتها أفراد الأسرة، وحدث فى إحدى هذه الوقفات أن كان حفيدها ويليام الذى أصبح الآن وليا للعهد بجوارها وقد انحنى فى لحظة على ابنه الصغير يشرح له ما يجرى فما كان من الملكة إلا أن لكزته فى يده منبهة له أن ينظر أمامه للناس وانتفض ويليام منتصبا بينما نظرت هى للأمام. وكان المعنى إشارة للملك القادم، انتبه أنت فى حضرة الشعب. هكذا كانت إليزابيث تحترم شعبها إلى أقصى درجة وفى سبيل ذلك ضحت بحياتها الخاصة والتزمت بدور بالغ الصعوبة فى الحفاظ على أسرار الأمة حتى ولو لم يكن باستطاعتها التدخل المباشر فيها.