ديفيد الفلسطينى يصفع جوليات الصهيوني.. لقطات متوازية من الماضي والحاضر - صلاح ابو الفضل - بوابة الشروق
الأربعاء 25 ديسمبر 2024 8:04 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ديفيد الفلسطينى يصفع جوليات الصهيوني.. لقطات متوازية من الماضي والحاضر

نشر فى : الجمعة 29 ديسمبر 2023 - 6:50 م | آخر تحديث : الجمعة 29 ديسمبر 2023 - 6:50 م

حين توقفت حرب الأيام الستة ــ نكبة مصر الكبرى فى العصر الحديث ــ كانت مفاجأة موشى دايان بالنصر المسروق أكبر من مفاجأة الشعب المصرى بالهزيمة الموجعة. يومها قال دايان لقد حققنا نصرا أكبر من كل ما كان يمكننا توقعه، وقيل وقتها إن إسرائيل ابتلعت أكثر مما ستستطيع أن تهضمه. وعلى مدى خمسين عاما ما زالت إسرائيل تحاول هضم ما ابتلعته، وما زالت تتعامى عن عسر الهضم بمهدئات الاستيطان ومواصلة العدوان على الشعب الفلسطينى، والتآمر على مصر وإنكار حقائق الواقع ومنطق التاريخ.
فى مصادفة تاريخ عبثية، يوم السابع من نفس الأكتوبر الذى مرغ كرامة العسكرية الإسرائيلية فى الوحل فى عام ٧٣، تهوى مؤخرا صفعة مرعبة من ركن غزة الصغير المحاصر منذ عقود، تقتحم غفلة الغرور الإسرائيلى، وتكسر من جديد أسطورة التفوق الذى لا يبارى فتتهاوى كل الحصون. لم يغتصب شباب فلسطين النساء كما كذبت إسرائيل، بل اغتصبوا ما هو أثمن، اغتصبوا شرف الموساد والشين بيت فى قلعتى الأسرار وتكنولوجيا التنصت فى يارام والوحدة ٨٢٠٠، وانتزعوا مع السجلات الإلكترونية صلف إسرائيل وغرورها. وعلى عكس دهشة دايان من حجم انتصاره، لا يبدو أن الفلسطينيين فوجئوا بما حصلوا عليه من أسرار وما حققوه من انتصار.
فى أعقاب ٦٧ دارت الرأس الصهيونية بخمر الانتصار، وغاصت الروح المصرية فى بحار من الندم والحيرة وجلد الذات. ثم لملمت مصر جروحها وراحت تبنى جيشها وظلت تصارع اليأس والشكوك حتي حققت الانتصار في اكتوبر 1973.
أما فى عام ٢٣ فإن الرأس الفلسطينى لم يتوهم ولم ينتشِ بل وقف متأهبا لاستمرار القتال مدركا أن صراع التنين المتوحش سيطول وأن طريق النصر طويل ومتشابك مثل أنفاق غزة. على الجانب الآخر بعد دهشة المفاجأة، تلبّس إسرائيل غضب مجنون وروح شرير لا يبقى ولا يذر. وانهالت آلة الحرب بكل العنفوان تهدم وتقتل وتبيد، وتدهس آثار الحياة فى الشريط الصغير، وكلما ازدادت حرقة الغضب فى رءوس الإسرائيليين وحكومتهم المتطرفة كلما ازداد البطش والقتل. جاوزت المعارك ثمانين يوما، والجنود تتساقط والدبابات تحترق والرأس الصهيونى يلف بدوار مختلف من الحيرة والتخبط، دفعت فيه أكثر من خمسمائة قتيل ودفع الشعب الفلسطينى أكثر من عشرين ألف شهيد.
• • •
لا شك أن الكثرة تغلب الشجاعة والحسابات تشى بأن الجيش العرمرم والمدعوم يوميا من ترسانات أمريكا وأوروبا لابد وأن تكون له الغلبة على مقاتلى المقاومة. لكن فى كل الحروب تتوازى قيمة الواقع العسكرى مع المحددات السياسية التى تفرض فى النهاية نتائج تختلف كثيرا عن حقائق المعارك وربما تناقضها، وهذه هى معجزة الصمود الفلسطينى الذى أشعل التعاطف فى أفئدة البشر فى كل بقاع الأرض وكشف درجة الشر والكراهية التى تنضوى عليها الصهيونية وأكذوبة المظلومية المفتعلة، حتى إن كثيرين من اليهود فى إسرائيل وخارجها خرجوا يستنكرون القتل العشوائى والإبادة التى طالت آلاف الأطفال والنساء ويطالبون بوقف القتال.
المعركة الآن تدخل مرحلة حرجة ستتصارع فيها التوازنات الدولية والضغوطات المحلية، وتختبر فيها الحنكة والصبر ووضوح الهدف. سيكثر الانهزاميون ودعاة التراخى، كما سترتفع أصوات مزايدة تتصور أن النصر الكامل قاب قوسين أو أدنى وكلاهما ضال ومضلل، والمنطق والحكمة يتطلبان النظر إلى هذه المرحلة كمنعطف هائل نحو الغاية المنشودة لكن لا يزال الطريق طويلا. فى كل يوم يخرج دهاقنة الصهيونية بمخططات مختلفة لاستثمار الهزيمة بالتهجير أو بالإبادة أو بالرجوع عن اتفاقيات التزمت إسرائيل فيها بحل الدولتين الأسيف. والأسئلة ما زالت تتوالى كيف سينتهى المشهد الدامى، ولعل أفضل ما يمكن الوصول إليه هو وقف إطلاق النار وبداية للتفاوض حول الحل النهائى مرورا بتبادل للأسرى وخطة إعمار وتعهدات بعدم الاعتداء، وهى نهاية تتوقف على قدرة الفلسطينيين على استثمار المتغيرات الدولية والهزة التى أصابت المجتمع الإسرائيلى والتغيير المحتم فى إدارته. المهم أن نعى أن هذه الضربة مثل ضربة ٦٧ ستفعل فعلها فى العقلية الإسرائيلية ومعنوياتها التى تسيطر فيها دوافع عاطفية كثيرة كما تحركها حسابات استيطانية أكثر، وإذا تنبهنا إلى الجانب العاطفى فإننا بإزاء تداعيات حتمية قد تغير المزاج الإسرائيلى وتفتح الثغرات التى ستؤدى فى النهاية إلى التغيير الأوسع. ومن يدرى ربما تكون هذه بداية النهاية لآخر جولة من جولات الحروب الصليبية على المشرق العربى التى اتخذت من الفرية الصهيونية غطاء مختلفا جاء أكثر شرا.
إن الهزيمة التى حاقت بمصر تولدت عنها موجة اكتئابية عارمة ظلت ولا تزال تنخر فى الوجدان المصرى، تقوض من ثقة المصريين بأنفسهم وترسخ فيهم قيم التواكل والتراجع وضعف الإرادة. وبالمقابل فإن الضربة المفاجئة للفلسطينيين ولدت فى الإسرائيليين هذا الغضب العارم والعنف الباطش الذى تراجعت معه كل مقومات التعقل والحساب المنطقى وهى حالة مؤهلة للاستمرار فى التخبط وخلط الأمور وتشتت الرؤية وارتكاب الأخطاء الجسيمة، وستصل آثارها حتما إلى الجوهر الفكرى والإنسانى الزائف الذى قامت عليه إسرائيل مما سيفرض على قطاعات واسعة من سكانها إعادة التفكير. وعلى الأنظمة العربية الواعية أن تبدأ حملة فكرية مدروسة تستخدم الآلة الإعلامية والمبادرات غير الرسمية لمخاطبة قطاع عريض سينمو فى إسرائيل يفكر بواقعية ستفرض نفسها لحثه على إعادة النظر وتقديم البدائل له، للتفكير فى التعايش مع سكان فلسطين الأصليين وإنشاء دولة واحدة للجميع تقوم على التعاون. يمكن مثلا أن نحلم بتكرار النموذج اللبنانى الذى يقسم السلطة بين طوائفه، فرغم مشاكله الحالية إلا أنه نموذج نجح لعقود طويلة ازدهر فيها لبنان كواحة ثقافية وديمقراطية لفترة من الاستقرار استوعبت فيه الخلافات والاختلافات قبل أن تتصارع فى داخله قوى خارجية كثيرة. يمكن التفكير فى أن يكون منصب رئيس الوزراء فى الدولة الواحدة يهوديا، ورئيس البرلمان عربيا، ويتبادل الطرفان رئاسة الدولة الجديدة. قد يعترض البعض باستحالة الفكرة أو غرابتها، لكننا ننسى أن إسرائيل تخرج علينا فى كل يوم بأفكار تبدو مستحيلة ثم تشرع فى تحقيقها. نموذج آخر هو نموذج جنوب أفريقيا الذى تشاركت فيه الأغلبية السوداء مع خبرة الأقلية البيضاء. هى معجزة تبدو مستحيلة لكن كل المعجزات تكون دائما خوارق للطبيعة والوقت يتهيأ، والمخزون الثقافى العربى يستطيع إذا وظف إعلاميا وسياسيا أن يضيف لطلقات المدافع قوة أكبر وأفعل تمهد الأرض للسلام والعدل المنشودين.

صلاح ابو الفضل طبيب نفسى مقيم فى المملكة المتحدة
التعليقات