عوامل نفسية متضاربة تتخلل المواجهة الحادة بين مصر وإثيوبيا على الصعيدين المحلى والخارجى، تجعل من اتخاذ القرار حيال التعنت والتسويف الإثيوبى تحديا بالغ الدقة والخطر. من هذه العوامل العلاقة العاطفية شديدة الخصوصية بين المصرى ونيله، هو واهب الحياة على جنبات الوادى ومصدر الإيقاع المنتظم والاستقرار الأزلى في حياة المصريين، وهو ينبوع الإلهام للشعراء والفنانين، وحبل الوصل مع شعوب إفريقيا. لذلك تشتعل الرغبة في التصدى كلما زادت مراوغة الحكومة الإثيوبية وكلما بالغوا فى إنكار حق مصر والسودان القانونى فى مياه النيل الأزرق، وقد نكون فى مصر غافلون عن المشاعر السلبية التى تركناها تنمو بين الإثيوبيين طوال عقود جعلتهم يتصورون أننا نحتكر المياه من دونهم.
ما علينا دائما تذكره أن الحق وحده لا يكفى إذا لم تسانده قوة تحميه وعزيمة تصد عنه المعتدين.
أما عن الموقف الدولى فلعله أكثر تعقيدا وربما أشد خطرا إذا لم يعالج بالحكمة والحسم معا. فمصر فى عيون العالم كيان خاص؛ هى دولة فقيرة لكنها غنية وهى مثقلة بالديون ومع ذلك تتوزع فى جنباتها مظاهر ثراء فاحش وسعة عيش، وهى مقدمة تاريخ العالم وحاضنة ماضيه لكنها متعثرة فى اللحاق بركب التطور والعلم الحديث، وهى تملك أحد الجيوش القوية، تضاعفت قوته عدة مرات منذ حرب العبور، لكنها تكاد تقف عاجزة عن فرض حقها وما زالت تحاول إقناع العالم بعدالة قضيتها وبحرصها على السلام الدولى وهى لغة لم تعد تناسب قانون الغاب الذى ساد فى هذا العصر. ولعل هذا ما يفسر قدرا محيرا من التبلد أو ربما الترقب لدى قوى دولية عديدة فى مواجهة خطر جسيم يوشك أن يقع بواحدة من الدول المهمة على الساحة الدولية، وكأن مشهد الصراع بين مصر وإثيوبيا قد تحول إلى مباراة تغرى بالفرجة دون الحاجة للتدخل. وبقدر ما يبدو من عزوف العديد من الأطراف العالمية عن الانخراط فى الأزمة، ومنهم مساهمون فى تمويل المشروع، إلا أن البعض يبدو أكثر استعدادا للتعاطف مع إثيوبيا، إما بدعوى الفقر والفرصة السانحة للاستثمار فى اقتصاد بِكر، وإما بغرض ترقب تطورات معركة تنتظر الانفجار في مناخ دولى متهيئٍ لكثير من مظاهر الاضطرابات والنزاعات الإقليمية. ورغم مجهودات خارقة للدبلوماسية المصرية ونشاط لم يهدأ لشرح القضية إلا أنه لم يظهر على الساحة الدولية أى استعداد جاد للضغط على إثيوبيا للامتثال لقواعد القانون الدولى، وكأنهم حصلوا على دعم ضمنى من قوى مجهولة ترسم لهم استراتيجية المماطلة والتعنت في المفاوضات. وفى هذا الجو المشحون بالتحدى من جانب وضبط النفس من جانب آخر تتحرك عقارب الساعة مقتربة من موسم الأمطار لكى تنفذ إثيوبيا عزمها على ملء السد دون اتفاق وهو ما سيكون فى النهاية بمثابة إعلان بالحرب، لأنه كما قال وزير خارجيتنا إن مصر ستكون فى موقف الدفاع عن وجودها.
***
ويتزامن مع هذا التهديد الوجودى من الجنوب تهديد آخر للأمن القومى المصرى من قرصان تركيا الذى لا يفتأ يقحم نفسه فى مناطق النزاع طمعا فى مغانم غير مستحقة وتثبيتا لمكانة دولية تتآكل يوما بعد يوم بسبب مغامراته ورعايته للإرهاب، وقد فشل فى العراق وفى سوريا وما زال منبوذا من الاتحاد الأوروبى وها هو يقفز عبر المتوسط طمعا فى غنيمة ليبية غير مدرك أنه ليس طرفا فى هذه الكعكة ولا يملك أن ينوب عن أحد فيها. وقد زين له الغرور وخطأ الحساب أنه يستطيع إخافة مصر والاستيلاء على شرق ليبيا، لكن مصر لا تملك إلا أن تتصدى لهذا التهديد السافر لأمنها القومى من دولة مارقة ترعى الإرهاب وتتصور أنها تستطيع أن تكرر نموذج اقتطاع جزء من قبرص فى ليبيا وأن تبتز مصر المنشغلة بأزمة سد النهضة.
***
ومع ازدياد التكهنات حول احتمالات اللجوء لحل عسكرى فى مواجهة التعنت الإثيوبى تجدر الإشارة إلى العوامل التى تعتمد هذا الحل والعوامل التى تحذر منه وهى كما يلى:
• نحن فى عالم تسيطر عليه شريعة الغاب يتصور نداء السلام ضعفا أو ترددا وهو يرحب بكثير من الكلام المعتدل فى المحافل الدولية لكنه يزن الأمور على أرض الواقع بمحصلات القوة المحتملة والمستخدمة فعلا.
• إن إصرار إثيوبيا على ملء السد ورفضها الاعتراف بحصة مصر والسودان من المياه هو بمثابة إعلان حرب تجويع وعطش ضد مصر لا يمكن معه استبعاد خطر المواجهة العسكرية للدفاع عن النفس.
• إن القوة العسكرية لا قيمة لها إلا إذا تأكد للخصم أنها ستستخدم، وقد يكون الحل العسكرى غير مرغوب فيه لكن يجب أن يكون واضحا للجميع أن مصر جاهزة به.
• إذا كانت الدول والهيئات التى ساهمت فى تمويل السد لم تراع أنه سيبنى على نهر مشترك مع دول المصب ولم تطلب موافقة مصر والسودان فلا حرمة لهم فى حال التصعيد العسكرى إزاء التعنت الإثيوبى.
• إن هدف إثيوبيا فى التنمية لا يمكن أن يتحقق على أنقاض البيت المصرى ولا يمكن لإثيوبيا أن تتصور أنها ستستطيع المضى فى برنامج تنمية طويل المدى دون سلام حقيقى مع جيرانها.
• إن تاريخ إثيوبيا فى بناء سدود على الحدود مع جيرانها مثل كينيا والصومال لا يبعث على الثقة ولذلك لابد من ضمان دولى لاتفاقيات صريحة وملزمة.
• إن ملء السد لا يجب أن يكون هو المشكلة الأساسية بل الإقرار الصريح والملزم بحصص كل طرف للمياه وبمبدأ شراكة مصر والسودان وإثيوبيا للنيل الأزرق، وإذا تحقق ذلك فإن مصر قد تقدم تسهيلات حول مسألة الملء.
• إن الصراعات الداخلية فى إثيوبيا أصبحت تدار من خلال المزايدة فيما يتعلق بمشروع السد، والمواجهة العسكرية قد يكون لها خطر توحيد الفرقاء فى إثيوبيا ولذلك قد يكون من الأفضل أن تتقدم مصر بحلول توفيقية للجميع مما قد يفتح فرصا للتحرك بينهم.
• إن مستقبل التعاون بين دول حوض النيل والقرن الإفريقى يجب أن يكون هدف الجميع وفى هذا الإطار يمكن أن تدخل مصر وإثيوبيا فى حزمة اتفاقيات ومعاهدات تضمن حصة المياه مقابل تعويض إثيوبيا بإمداد الكهرباء بمقدار العجز المحتمل أثناء سنوات الملء، والدخول فى اتفاقيات أوسع لشراء المنتجات الزراعية والحيوانية مع تعهد إثيوبيا بعدم التوسع فى إنشاء سدود أخرى على النيل الأزرق دون موافقة مصر، أى إرساء مبدأ التعاون الاقتصادى والتعويضى مقابل الأمن المائى طبقا للقانون الدولى.
***
السؤال حول الأولويات لا يستطيع أحد تحديده إلا صانع القرار المصرى الذى تتوفر لديه كل حقائق الموقف التى سيبنى على أساسها اختياراته، وفى هذا المجال فإن التأييد الشعبى الكامل لابد وأن يتأكد في معركتى مصير قد لا يكون هناك مناص من خوضهما.