بأى مقياس علمى أو عملى أو أخلاقى يعد حماس فريق من الناشطين الأقباط فى الداخل والخارج للرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب خطأ فادحا، يصل إلى حد هزيمة الذات؟
هذا الحماس وضح خلال التنافس الانتخابى بين ترامب، ومنافسته الديمقراطية هيلارى كلينتون، واشتعل بعد انجلاء المعركة عن فوز الرجل بالمنصب، ثم بلغ حد الهوس بعد خطابه فى حفل التنصيب وقراراته التمييزية ضد المسلمين، إلى حد أن مفكرا (قبطيا كبيرا) وصف ترامب بأنه رسول العناية لإنقاذ الحضارة العالمية من مشروع الخلافة، ومن ظاهرة الأصولية الاسلامية.
وكانت متابعتى لما يكتبه ويقوله ناشطون أقباط قد كشفت لى تحول بعضهم من الهجوم على «الاسلام السياسى» ومنظماته، فى أثناء معركة انتخابات الرئاسة الأمريكية، إلى الهجوم على الإسلام ذاته كعقائد وتاريخ، بمجرد إعلان فوز ترامب بالرئاسة، فى تكرار انتقامى لتهجم المسلمين المتطرفين على عقائد الأقباط، وعقائد غير المسلمين جميعا.
قد أتفهم أن يتحمس بعض بسطاء الأقباط لهذا الرئيس الأمريكى الجديد، وقد أتفهم أيضا أن يتداول غير البسطاء من الأقباط مثل هذا الحديث فى جلساتهم الخاصة من باب التنفيس عن الغضب من التمييز ضد المسيحيين فى مصر، وغيرها من البلدان العربية، ومن الجرائم الإرهابية ضدهم، أو من باب الشماتة فى تنظيمات ومقولات الإسلام السياسى، بل وأتفهم ثالثا انحياز ناشطين أقباط للرجل، والتصويت له لأسباب تكتيكية، ولكن يبقى من غير المفهوم كيف يربط مثقفون فى الداخل، وقيادات قبطية فى الخارج بين قضية ديمقراطية حقوقية عادلة كقضية الأقباط فى مصر، وبين رئيس أمريكى فاشى عنصرى عدوانى؟! أو بين مواجهة مقولات «الاسلام السياسى» التمييزية ضد غير المسلمين، وبين سياسات إدارة أمريكية جديدة تنطلق من التمييز ضد كل مما ليس بروتستانتيا أبيض أنجلوساكسونيا.
فمن الواضح تماما أن ترامب يتبنى عقيدة صراع الحضارات فى صيغتها الأولى، قبل أن يضطر مخترعها صمويل هانينجتون نفسه لمراجعتها تحت تأثير التفاؤل بعقيدة «العولمة» فى سنوات حكم بيل كلينتون للولايات المتحدة، وكما هو معلوم فإن هانينجتون أنذر بأن العلاقات الدولية فى المدى المنظور من القرن الحادى والعشرين سوف تدار على أساس الصراع بين خمس دوائر حضارية تشكل العالم الحديث، هى الحضارة البروتستانتية الكاثوليكية بقيادة الولايات التحدة، وتتبعها أوروبا الغربية، والحضارة الأرثوذكسية السلافية فى روسيا وشرق أوروبا والبلقان، والحضارة العربية الإسلامية، ثم الحضارة الكونفوشوسية الصينية، مع الاعتراف بخصوصية للحضارة الهندية فى آسيا.
وبالطبع فإنه يعطى التفوق السياسى والأخلاقى فى هذا الصراع للدائرة البروتستانتية الكاثوليكية، وفيما يتعلق بموضوعنا، فإنه يجعل من الأرثوذكسية التى ينتمى اليها الأقباط المصريون دائرة معادية، أو مغايرة، فإذا أضيف إلى ذلك أن الأقباط ومسيحيى الشرق الأوسط عموما لا ينحدرون من الجنس الأبيض (الذى لم يشفع انتماء أكثر الروس وبقية الشعوب السلافية له لدى هانينجتون)، فإن حماس الأقباط لترامب يكون شبيها بحماس الفاشيين من القوميين العرب وزعماء أحزاب الأقلية فى مصر للنازية الألمانية لمجرد أنها كانت تعادى المستعمرين الإنجليز والفرنسيين، وتضطهد اليهود، مع أن المذهب النازى كان يضع العرب أنفسهم فى المرتبة المتدنية التى يضع اليهود فيها، فى قائمة الترتيب العنصرى لأجناس البشر، ولو كان هتلر قد انتصر لأباد العرب أيضا، وغيرهم من الأجناس غير البيضاء، أو لاتخذهم عبيدا، وقد ألمحنا إلى هذه المفارقة من قبل، فى سياق انتقادنا «للمسلمين» المتحمسين لترامب، بسبب كراهيته وكراهيتهم لجماعة الإخوان المسلمين، وغيرهم من تنظيمات الإسلام السياسى، وقلنا إنه يجب التفريق بين كراهية ومقاومة التطرف والإرهاب، وبين الكراهية الصادرة عن منظومة فكرية وسياسية تقوم بكاملها على كراهية كل الآخرين، والاستعلاء عليهم، والتمييز ضدهم، كما هى حالة الرئيس الأمريكى الجديد، ومعظم فريقه وناخبيه.
غير أن التناقض فى تحمس بعض المثقفين والناشطين الأقباط لا ينتهى هنا، إذ إنهم فى الوقت الذى يعتبرونه رسول العناية لهزيمة الأصولية الإسلامية، يتناسون أنه هو نفسه أصولى مسيحى، بأفكاره السياسية، وبتجنيده لليمين المسيحى الأصولى فى معركته الانتخابية، وقد أصبح هذا «اليمين الأصولى» قوة رئيسية فى السياسة الأمريكية منذ عهد الرئيس الأسبق رونالد ريجان، فكيف نؤيد أصوليا هناك ليهزم أصوليين هنا ما دمنا نرفض الأصولية منطلقا ومنهجا وأهدافا ؟! فإذا كان هؤلاء لايرفضون إلا الأصولية الإسلامية وحدها، فليعلنوا ذلك صراحة لنتعامل معهم على هذا الأساس، ونستبعدهم من صفوف القوى الديمقراطية.
سيقولون إن أصولية ترامب واليمين المسيحى الأمريكى ليست عدوانية ولا إرهابية، ولذا فهى لا تشغلنا فى الوقت الحاضر الذى يجب التركيز فيه على هزيمة إرهاب الأصولية الإسلامية، ولكن هذا القول غير صحيح بالمرة، لأن أصولية اليمين المسيحى الأمريكى هى أيضا عدوانية إرهابية، بل واستعمارية أيضا.
فقد تعددت جرائم الإرهابيين البيض الأمريكيين المسيحيين منذ منظمة الكوكلوكس كلان حتى تفجير أوكلاهوماسيتى منذ عدة سنوات، وصولا إلى تكرار الاعتداءات على مساجد المسلمين الأمريكيين والكنديين أخيرا، لكن الأفدح هو أن الإدارات الأمريكية ذات النزعة الأصولية تندفع إلى العدوان على الشعوب الأخرى، مثلما فعلت إدارة بوش الابن فى غزو العراق دون أى سند قانونى أو أخلاقى، ومثلما يخطط الأن ترامب، وحليفته البريطانية تريزا ماى لإحياء الهيمنة الاستعمارية الأنجلو أمريكية على الشعوب الضعيفة، تحت لافتة «لنقد العالم من جديد»، كما قالت ماى فى مؤتمرها الصحفى فى البيت الأبيض، (كانت ماى ترتدى ثوبا أحمر اللون بدرجة صارخة فى أثناء ظهورها الرسمى فى واشنطن، تضامنا مع رابطة عنق ترامب الحمراء، فى إشارة يفهمها الأمريكيون على أنها تأكيد للشعور بالقوة، والاستعداد لاستخدامها)، أو مثلما قالت المندوبة الأمريكية الجديدة فى الأمم المتحدة فى جلسة الكونجرس للتصديق على تعيينها «إنه حان الوقت لإظهار بعض القوة».
ما سبق كان استعراضا للأسباب العلمية والأخلاقية لخطأ بعض المثقفين والناشطين الأقباط فى الحماس لرئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة، بكل ما يمثله من فاشية وعنصرية وعدوانية ، والآن ما هى الأسباب العملية التى تجعلنا نعتقد بخطأ وخطورة هذا الحماس؟
بداية ليس هناك ما يضمن نجاح سياسات ترامب، كما لا يوجد ضمان بإعادة انتخابه، وإذا فرض وأعيد انتخابه، فليس هناك ما يضمن استمرار سياساته بعد انتهاء حقبته، لسبب جوهرى، وهو أن مسيرة التاريخ الأمريكى، والغربى عموما تتجه باطراد ومنذ عصر التنوير نحو الديمقراطية، والوحدة الإنسانية، حقا قد تتباطأ هذه المسيرة أحيانا بسبب عراقيل يضعها أمثال هتلر وترامب، ولكن سرعان ما تزول هذه العراقيل، ويستأنف التاريخ تقدمه، بل ويتجه إلى مناطق جديدة ليلحقها بالركب، كما حدث فى آسيا، وأمريكا اللاتينية، وكما سيحدث ــ لامحالة ــ فى العالمين العربى والإسلامى، وعليه فإن ربط مسألة حقوق الأقباط فى مصر، وحقوق المسيحيين فى العالم الاسلامى، ومواجهة تطرف الأصولية الإسلامية به، هو رهان قصير النظر والأجل، وقد يؤدى إلى عكس المراد منه، بمعنى توفير ذرائع لانخراط معتدلين فى تنظيمات التطرف، وإضعاف المثقفين والناشطين المسلمين العاملين من أجل بناء دولة القانون المدنية الحديثة القائمة على مبدأ المواطنة فى بلادهم، خصوصا عندما تنتقل سياست ترامب من التبشير بالاستعمار إلى التطبيق الفعلى، فهو قد تعهد بالسيطرة من جديد على البترول كما كان الحال قبل عصر التحرر الوطنى والتأميم، وذلك خلال زيارته لمقر وكالة المخابرات المركزية، كما تعهد بتأييد كل خطط اليمين الاسرائيلى، بل وقرر فى أيامه الأولى وقف المساهمة المالية الأمريكية فى أية منظمة دولية تمنح السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير الفلسطينية حق العضوية فيها، وكل ذلك يعنى أن أهداف ترامب فى منطقتنا لا تنحصر فى هزيمة داعش والتطرف الاسلامى (التى نتمناها)، ولكن هذه الأهداف تشمل أيضا العدوان الواضح على الاستقلال والموارد والحقوق.
...........
ثم كيف ينسى المتحمسون الأقباط لترامب دروس التاريخ بهذه البساطة ؟
أقصد كيف نسوا رفض أحد بابواتهم العظام عرض قيصر روسيا منحهم حماية بلاده فى القرن الـ19؟
وأقصد أيضا كيف نسوا قصة المعلم (أو الجنرال) يعقوب، (وغيرها من القصص التى أرخ لها الجبرتى، ونتورع عن ذكرها) للتحالف مع الحملة الفرنسية، اعتقادا بأن الفرنسيين باقون فى مصر إلى الأبد؟ ثم اضطراره إلى الرحيل معهم، تاركا العلاقة بين المسلمين والأقباط فى أسوأ أحوالها، لولا أن تولى محمد على باشا الحكم فى مصر، مؤمنا بأنه فى السياسة لا فرق بين مسلم ولا مسيحى كما قال لأحد ضيوفه الأجانب.
وأقصد ثالثا: كيف نسوا أن سبعين سنة من الاحتلال البريطانى لمصر انقضت، وبقينا جميعا مسلمين ومسيحيين هنا؟
وأقصد رابعا: كيف نسوا وينسون أن الإرهاب والتطرف يستهدفان المسلمين كما يستهدفان المسيحيين، وأن القضاء عليهما لا يؤدى فى حد ذاته إلى انهاء جميع مشاكل الأقباط مع الدولة ومع المجتمع؟ ولكن الذى ينهى هذه المشكلات حقا هو العمل المشترك لبناء الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة، دولة القانون والمسئولية الحكومية أمام الشعب صاحب السيادة الأصلى.
أخيرا.. أقول لجميع كارهى الإسلام السياسى، من حقكم أن تكرهوه، ولكن ليس من حقكم أن تعلو كراهيتكم له على حبكم للديمقراطية، وحرصكم عليها لأنها سفينة النجاة للجميع، بمن فيهم من يرفضون العنف والإكراه والتمييز والتشهير من الاسلاميين السياسيين.