فى معرض تفسير ــ لم يقتنع به كاتب التقرير نفسه ــ لتجاهل الإدارة الأمريكية الحالية لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد فى علاقاتها مع دول الخليج، وعموم الشرق الأوسط، نقلت مجلة ذا نيويوركر عن مسئولين كبار فى واشنطن أنهم كلما فاتحوا مسئولا خليجيا فى هذه القضايا يكون الرد: «إننا لا نعيش فى كاليفورنيا، ولكننا نعيش فى الشرق الأوسط»، بمعنى أن دول ومجتمعات الشرق الأوسط يجب، بل يستحيل أن ينطبق عليها، أو تطبق فيها تلك القيم والمعايير المطبقة فى الحياة السياسية الأمريكية، وفى دول الغرب الصناعية المتقدمة ككل.
أما الحيثيات فهى أن الشرق الأوسط ملىء بالانقسامات الدينية والمذهبية والطائفية والقبلية والجهوية، وهى انقسامات ذات جذور ضاربة فى أعماق التاريخ، ومحملة بشحنات متفجرة من المرارات والمظلوميات والثارات والأساطير، كل ذلك على خلفية من تدنى نسب المتعلمين، وضعف الصناعة، ومن ثم سيادة القيم الإقطاعية والريعية على علاقات الإنتاج، وكذلك على خلفية التفاوت الصارخ فى المستويات الحضارية بين شعب وآخر، وفى داخل الشعب الواحد بين الريف وبين المدينة، وبين البوادى وبين الوديان.
حين فكرت فى التعليق على هذا التقرير لم أكن أنوى المجادلة حول صحة هذه الحيثيات، وهى بالقطع صحيحة، ولن يفيدنا إنكارها بشىء، لكنى أراها فى أحسن الأحوال مثالا نموذجيا لمقولة الحق الذى يراد به الباطل، إذ يتجاهل القائلون بأن الشرق الأوسط ليس كاليفورنيا مسئولية نظم الحكم نفسها عن الفشل المزمن فى علاج هذه الأمراض، أو التخفيف من حدتها، ولو تدريجيا، بل إنهم يتجاهلون مبادرة هذه النظم إلى توظيف هذه السراعات لحماية نفسها، ومن ثم مسئوليتها عن الارتداد بإيديولجيات وتنظيمات الحداثة السياسية (إن جاز التعبير) إلى أشد الممارسات ظلامية وتخلفا، ليقع حزب البعث (العربى الاشتراكى) فى سوريا مثلا فى وهدة الطائفية العلوية والعشائرية الأسدية القرداحية، وليقع شقيقه العراقى فى مستنقع الطائفية السنية والعشائرية التكريتية، والعائلية الصدامية، فى إطار نموذج متفرد وبالغ الشراسة من عبادة الزعيم الفرد، بل إن دولة سبقت كل جيرانها فى مضمار الحداثة السياسية مثل مصر لم يجد أحد رؤسائها وسيلة لدعم توجهاته السياسية سوى إطلاق العنان لإفكار العصور الوسطى فى الثقافة والسياسية والدين، ومساندة التنظيمات الحاملة لهذه الأفكار بموارد الدولة وأدواتها، على نحو ما فعل الرئيس المصرى الراحل أنور السادات.
لم يكن ما حدث من ارتدادات رجعية بالغة الفجاجة فى كل من سوريا والعراق، مصر حتمية تاريخية تفرضها علاقات الإنتاج، أو توازنات عن القوى الداخلية كما يهوى البعض أن يجادل، ولكنها كانت اختيارات واعية ومقصودة من حاكم فرد ركز فى يديه كل أدوات القوة السياسية من عسكرية وبيروقراطية واقتصادية فى الحالات الثلاث بلا استثناء، واعتمد أساليب الرشوة والإفساد لتأمين الولاء السياسى.
من زاوية أخرى للنظر تنطوى مقولة أن الشرق الأوسط ليس كاليفورنيا على مغالطة فكرية وعملية لا تقل فداحة عما سبق رصده، إذ تبقى هناك مستويات متعددة للحكم الرشيد فيما بين هذين الحدين.. الأدنى متمثلا فى الشرق الأوسط، والأعلى متمثلا فى كاليفورنيا، وبكلمات أخرى فليست الديمقراطيات نموذجا واحدا فى النجاح والاكتمال، فمن المؤكد أن ديمقراطية ديجول ليست كديمقراطية الجمهورية الفرنسية الرابعة، وليست الديمقراطية الاسكندنافية مثل الديمقراطية الأمريكية، كما أن الديمقراطية الوليدة فى شرق أوروبا لا تضاهى الديمقراطيات العريقة فى غربها.
وكذلك فالديكتاتورية ليست نموذجا واحدا، وليست كلها متساوية فى درجة السوء والفشل، إذ لا يزال صحيحا أن بعض الشر أهون من بعضه، وأن فى الشر ذاته اختيارات، كما تقول الحكمة الموروثة، فمن المؤكد أن ديكتاتورية لينين كانت أفضل من ديكتاتورية ستالين، وأن الديكتاتورية الفيتنامية كانت أفضل من ديكتاتورية بول بوت فى كمبوديا، وأن الديكتاتوريات المصرية كانت أقل سوءا بكثير من الديكتاتوريات السورية والعراقية والليبية، وكذلك لا تقارن ديكتاتوريات السودان بغيرها من الديكتاتوريات العربية.
وإذا أردنا أن نضع معيارا نحدد به أسوأ أنماط الديكتاتورية فهو ذلك الذى يجمع ما بين تركيز السلطة والثروة أو إدارة الثروة فى أيدى قلة تدعم مشروعا سلطويا محضا، ولا تعبأ كثيرا بأية ضوابط، مثلما كانت حالة معمر القذافى فى ليبيا، أو صدام حسين بالعراق، وكما هو الحال الذى يثور ضده الجزائريون الآن، فهذا وضع يختلف عن ما يسمى بالنظم الشمولية فاشية كانت أو نازية، أو ستالينية، وهو بالقطع يختلف أيضا عن نوع النظم السلطوية التى عرفتها دول مثل سنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية والصين، والتى طور كل منها ديناميات للتفاعل والحوار السياسيين، ومعايير للإنجاز والثواب والعقاب والمساءلة والمسئولية.
قبل أن نغادر هذه النماذج السلطوية نتوقف قليلا عند الحالة الماليزية على وجه الخصوص، بما أننا ذكرناها فى عنوان هذا المقال، فهذه الدولة ذات الأغلبية المسلمة هى أيضا متعددة الأديان والقوميات والعرقيات واللغات، إذ يعيش فيها، ويحمل جنسيتها، ويتمتع بحقوق مواطنتها أقليات مؤثرة من الصينيين والهنود، إلى جانب غالبية من المواطنين المسلمين المنتمين إلى قومية الملايو، مما يبطل التذرع بالانقسامات المشار اليها سابقا كحجة لإقناع الأمريكيين واقتناعهم بأن الشرق الأوسط ليس كاليفورنيا، غير أن هناك درسا آخر فى التجربة الماليزية لا يقل أهمية، وهو أن هذه الدولة بدأت مسيرتها ــ بقيادة تنكو عبدالرحمن ــ فى التنمية الاقتصادية والتحديث السياسى بين مطرقة شيوعية ماو تسى تونج الصينية الطامحة لاجتياح جنوب شرق آسيا، وسندان النزاع المرير مع إندونسيا حول السيادة على إحدى الجزر، أى أن قصة النجاح الماليزى لم تتحقق داخل معمل معقم، ولكنها تحققت وسط مؤامرات واستفزازات خارجية هائلة، بل وفى أتون الحرب الفيتنامية الشهيرة، التى سممت الإقليم والعالم ما يزيد على عقد من السنين.
السؤال الذى أجلنا الإجابة عليه إلى قرب نهاية المقال، والذى تبطل إجابته نهائيا والى غير رجعة حجة أن الشرق الأوسط ليس كاليفورنيا هو: وهل الهند أعظم ديمقراطيات العالم الثالث أقل تعددا وانقساما وصراعا بين الأديان والمذاهب والملل والنحل والطوائف والأقوام والأقاليم واللغات وألوان البشرة من الشرق الأوسط؟! وهل كانت نسبة المتعلمين فى الهند غداة استقلالها، أو فى الوقت الحاضر أعلى من نسب التعليم فى معظم دول الشرق الأوسط؟! وهل عاشت الهند بمعزل عن الصراعات الخارجية على حدودها الشرقية والغربية مع الصين تارة، ومع باكستان تارة أخرى؟!، وهل عرفت أية دولة فى العالم معدلات البؤس والفقر التى ورثها الهنود من الاستعمار؟!
وأخيرا هل توجد الا نماذج محدودة من دول العالم تضاهى الهند فى فقرها المدقع فى موارد الطاقة البترولية.. ناهيك عن غياب الثروة البترودولارية، والحجم السكانى الفلكى، والتاريخ الطويل الحافل بسفك الدماء؟!
إن كل هذه الظروف الجوهرية لم تمنع الهند من إقامة نموذج للحكم الديمقراطى الرشيد، الملتزم بالقانون والمساءلة والتعددية والتداول السلمى للسلطة وحرية تبادل المعلومات وحرية التعبير والاعتقاد، والخالى تماما من الفساد السياسى ماليا وقضائيا، مع التسليم بوجود درجات من الفساد الإدارى، أى فساد الموظفين، وليس فساد السياسيين والقضاة، فلماذا اذن يضرب مسئولون عرب المثل بكاليفورنيا تنكرا لمطالب شعوبهم، ولا يضربون المثل بالهند سعيا لترقية هذه الشعوب، إن كانت تحتاج إلى ترقية من وجهة أنظارهم؟!
إذا كنا قد اتفقنا على أن الديمقراطية مستويات متفاوتة الاكتمال، وعلى أن الديكتاتورية مستويات متفاوتة السوء، فدعونا نتمنى الأقل سوءا، أو حتى الأقل اكتمالا!، أى دعونا نتمنى للشرق الأوسط ديكتاتورية الحد الأدنى، حيث بعض الشر أهون من بعضه، أو ديمقراطية الحد الأدنى، من باب أن ما لا يدرك كله لا يترك كله.