لا أشارك البعض رؤيتهم أن التركيز على الأوضاع فى منطقة الخليج يعد ابتعادا عن الشأن المصرى، لأن دول الخليج أو بعضها على الأقل تؤثر منذ فترة طويلة فى الإقليم كله، إن سلبا وإن إيجابا، كما أن جوهر النزاع فى الخليج هو الصراع على الهيمنة الإقليمية بين كل من المملكة العربية السعودية وإسرائيل وإيران، كما كتب أخيرا يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا الأسبق، الذى سبق أن خاض مع رئيسه المستشار الألمانى الأسبق جيرهارد شرودر معركة سياسية ودبلوماسية وإعلامية مفتوحة ضد خطة وعملية الغزو الأمريكى للعراق عام 2003، محذرا فى ذلك الوقت المبكر من أن سقوط النظام العراقى سيؤدى إلى تقوية إيران بما لا يطاق، إلى جانب ما سيجلبه الغزو من كوارث أخرى.
كان فيشر أيضا هو المحرك للمبادرة الأوروبية للحوار مع طهران فى خضم الاستعدادات الأمريكية البريطانية لغزو الأراضى العراقية، بذريعة تفكيك ترسانة أسلحة الدمار الشامل، المدعى كذبا على عراق صدام حسين بإنتاجها وتخزينها، والتخطيط لاستخدامها، وكانت رؤية الوزير الألمانى الأسبق التى طرحها على زملائه وزراء خارجية الاتحاد الأوروبى هى عدم كفاية معارضة عدوانية المحافظين الجدد فى إدارة الرئيس الأمريكى جورج بوش الإبن، وإنما يجب المبادرة إلى سد الذرائع التى ينتحلونها، وعليه فيجب على الأوروبيين الشروع فى الحوار مع إيران، لإقناعها بعدم إنتاج أسلحة نووية، ودمجها فى الأسرة الدولية، بعد عقود من الحصار الأمريكى، وعدم الاكتراث الأوروبى، وفى هذه اللحظة تشكلت الترويكا الأوروبية من فيشر ووزيرى خارجية فرنسا وبريطانيا، لتبادر بزيارة طهران، وليبدأ الحوار الأوروبى الإيرانى، الذى أفضى إلى الاتفاق النووى بين إيران والدول الكبرى فى نهاية المطاف، ولكن بعد أن كان بوش ومحافظيه الجدد قد غادروا مواقعهم، وجاء الرئيس باراك أوباما وفريقه.
لذا تكتسب رؤية وزير خارجية ألمانيا الأسبق للوضع الحالى فى الخليج والشرق الأوسط أهمية خاصة، وتزداد هذه الأهمية عند كاتب هذه السطور لسببين، الأول هو الإطلاع المباشر بحكم العمل فى ألمانيا فى تلك الفترة، والثانى هو الإتفاق فى تشخيص إستراتيجية الرئيس الأمريكى الحالى دونالد ترامب نحو إيران بأنها حطام استراتيجية، كما قال الكاتب هنا قبل أسبوعين، أو كما يقول فيشر فى عنوان مقاله المشار إليه فى موقع (بروجيكت ــ سينديكيت) حين يصف استراتيجية ترامب هذه بأنها Loose ــloose strategy
وإذا كنا قد رأينا من قبل، كما رأى كثيرون غيرنا أسبابا مهمة تستبعد حربا واسعة فى الخليج، أو هجوما أمريكيا موسعا على إيران، مع التسليم بإمكان إنفجار الموقف بالخطأ أو بتداعيات التصعيد المستمر من الجانبين الأمريكى والإيرانى، والتحريض الخليجى الإسرائيلى.. وإذا كانت المبادرات المنبثقة من الإقليم معدومة، أو غير محتملة على المدى القريب.. وثالثا إذا كان من شبه المستحيل على إيران الإستجابة لدعوة ترامب للحوار الثنائى المباشر، وذلك لأسباب أيديولوجية وتاريخية، فإن المخرج الأمثل أو الأرجح هو التدويل، بمعنى العودة إلى مبدأ الإتفاق الدولى مع إيران، على أن يكون هذه المرة متعدد الأغراض والجوانب، أى لا يقتصر على قضية أسلحة الدمار الشامل، أو البرنامج النووى الإيرانى.
ما يرجح هذا الاحتمال هو أن كل الأطراف قد وصلت إلى مرحلة الإجهاد، أو إلى النقطة التى ليس بعدها إلا المزيد من الخسائر الاقتصادية، والسياسية، وتآكل الهيبة والمصدقية، دون مكاسب جديدة محتملة.
إيران من ناحيتها تعانى بقسوة من العقوبات الإقتصادية الأمريكية، وتتكبد نفقات طائلة لاستبقاء نفوذها وولاء حلفائها فى اليمن والعراق وسوريا ولبنان، حيث طالت خطوط معاركها بأكثر مما يتحمله إقتصاد عالم ثالث محاصر، وأما الولايات المتحدة فقد نزفت من هيبتها العالمية، ومصداقيتها لدى العواصم الخليجية الكثير مما يصعب تعويضه إلا بحرب مكلفة لها وللمنطقةو للعالم ضد إيران، أو بصفقة شاملة مشرفة أو معقولة، ولكى تصل إلى هذه الصفقة فلا بد لها من الاعتماد على دول كبيرة أخرى، أو التعاون مع هذه الدول على الأقل، كما حاولت أخيرا دون نجاح من خلال الوساطة اليابانية، وهو ما سيؤدى إلى العودة إلى شركاء الإتفاق النووى الذى انسحب منه ترامب، أى ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا والصين .
ومن الواضح أن هذه الدول الخمس الأخيرة لا تنقصها الرغبة ولا الإرادة ولا المصلحة، وكما ذكرنا فى الإسبوع الماضى فإن روسيا تحديدا تقدمت بمشروع أولى للأمن الجماعى فى الخليج، ويفترض وجود تنسيق صينى روسى حوله، والأرجح أن الولايات المتحدة لم تعد حساسة ضد مثل هذه المبادرات الروسية، كما كان الحال فى الماضى، وذلك لأن روسيا أصبحت قوة شرق أوسطية فعلا لا مجازا، بوجودها العسكرى الكثيف والدائم فى سوريا، ونفوذها السياسى العريض فى هذه الجبهة، بما يتضمنه من تنسيق استراتيجى مع إسرائيل من ناحية، ومع تركيا من ناحية أخرى، ثم إن روسيا أصبحت أيضا قوة خليجية، ولو بصورة غيرمباشرة من خلال تحالفها الاستراتيجى مع إيران على الجبهتين الخليجية ذاتها والسورية، وفى ذات الوقت فقد أصبح من المسلمات الاستراتيجية أن الولايات المتحدة قررت خفض التزاماتها فى الشرق الأوسط والخليج منذ أواخر سنوات أوباما فى البيت الأبيض، وزاد ترامب على ذلك قراره المعلن بالإنسحاب العسكرى من سوريا وأفغانستان.
وأما السعودية والإمارات اللتان تتصدران استراتيجية المواجهة ضد إيران فى اليمن، وفى كل مكان، وبكل الوسائل، فلا شك أنهما أيضا دخلتا مرحلة الإجهاد، دون بارقة أمل فى نصر قريب، لا فى اليمن ولا فى الخليج نفسه، ومن المؤكد أن هذا الشعور بالإجهاد فى الرياض وأبوظبى تحول إلى شعور بالصدمة والألم من جراء الخذلان الأمريكى للبلدين بعدم الإندفاع لمحاربة إيران، ليس فقط بتراجع ترامب فى اللحظات الأخيرة عن توجيه ضربة انتقامية ردا على إسقاط الإيرانيين للطائرة الأمريكية المسيرة منذ أسبوعين، ولكن أيضا بإعلان الرئيس ترامب دون مواربة أنه لن يخوض حربا لحماية الملاحة النفطية فى الخليج، أو لأى سبب آخر سوى منع إيران من امتلاك سلاح نووى.
تبقى إسرائيل وهى مع السعودية والإمارات الأكثر دفعا فى اتجاه تفجير الموقف مع إيران، وهى بدورها لديها ماقد يجبرها على قبول مبدأ الاتفاق الدولى مع طهران، ولندع مؤقتا الخطر المؤكد الذى يمثله حزب الله على الشمال الإسرائيلى فى حالة الهجوم على إيران، لنذكر القراء بأن سياسة بنيامين نتينياهو رئيس وزراء إسرائيل المناهضة لأى تفاهم دولى مع الإيرانيين، والباحثة فى كل مكان عن حلفاء لضرب إيران فورا لا تحظى بإجماع داخل إسرائيل نفسها، باعتبارها سياسة متطرفة رعناء، تخدم الأغراض الانتخابية لنتنياهو، كما تخدم تحالفه مع المتطرفين من اليهود الأمريكيين، وكان إيهود باراك رئيس وزراء إسرائيل الأسبق قد كتب فى شهر مايو من العام الماضى معارضا بشدة نية الرئيس ترامب الانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران، ومحذرا من نتائجه، وهنا ينبغى الا تفوتنا دلالة إعلان باراك عودته للحياة السياسية مرة أخرى، واعتزامه المنافسة على رئاسة الحكومة فى الانتخابات المقبلة، إذ يعرف كل من له دراية بالسياسة الإسرائيلية أن إيهود باراك لا بد وإنه قد نسق مع اللوبى اليهودى الأمريكى غير الليكودى.
حين نقول إن التدويل يقترب من الخليج فليس القصد هو إحياء الاتفاق النووى مع إيران بشروط أفضل، ولكن المقصود كما سبق القول صفقة متعددة الجوانب، مع إيران تشمل اليمن وسوريا والعلاقات الخارجية الايرانية، وبما أن إيران تعتمد استراتيجيا واقتصاديا على روسيا والصين فلا بد من مشاركة الدولتين فى ضمان أى ترتيبات يتم التوصل إليها، وليس لذلك اسم إلا التدويل، أما ما بين إسرائيل وحزب الله اللبنانى، فالأغلب أنه سيرحل إلى مستقبل تكون فيه إجراءات بناء الثقة قد اختبرت بنجاح.