ذو الطلّة البهية - جميل مطر - بوابة الشروق
الإثنين 30 ديسمبر 2024 7:51 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ذو الطلّة البهية

نشر فى : الثلاثاء 2 مارس 2010 - 9:21 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 2 مارس 2010 - 9:21 ص

 كان محمد فائق أول من تحدثت معه عن نيلسون مانديلا. حدث هذا قبل عقود لا أذكر عددها. وكان الأخضر إبراهيمى آخر من تحدثت معه عنه. حدث هذا قبل أسابيع معدودة أثناء مروره بالقاهرة فى رحلة عمل أخذته من فرنسا إلى اليمن. كنت أقول لكل من يأتى على ذكر مانديلا إنه الرجل صاحب «الطلّة» الحلوة والمريحة للأعصاب والباعثة على الثقة. وعندما احتفلوا به منذ أسبوعين بعيد ميلاده الواحد والتسعين، وبمرور عشرين عاما على خروجه من السجن، حانت فرصة الاستمتاع بهذه الطلّة المريحة مرة أخرى، متمنيا ألا تكون أخيرة.

قليلون هم القادة التاريخيون الذين جمعوا فى شخصياتهم صفات جميلة وعديدة، ونادرا ما نجد بينهم من حقق أهداف كفاحه وتخلى عن مكانه لغيره يكمل المشوار من بعده، ويبقى هو بعيدا محافظا على حب الناس له وواقيا صفحته البيضاء ضد ملوثات البيئة السياسية وغيرها. مع مثل هذا الشخص تجرى المقارنات دائما بينه وبين أقرانه ومعاصريه من القادة.

وبالفعل عقدت ومازالت تعقد مقارنات، بعضها يثير شجونا وبعض آخر يدفع إلى السطح بآلام كان الظن أننا تجاوزناها أو جرفتها آلام وخيبات أمل أقوى. بعض ثالث من هذه المقارنات يكشف عن حجم خسارتنا، فكثيرة هى السنوات من أعمارنا التى ضاعت هباء بفضل زعماء جلبوا على شعوبهم خرابا خفيفا أو شديدا، أو يكشف عن مكاسب جنتها شعوب عاشت سنوات عز وعزة، أو هكذا تخيلت، بفضل زعماء حققوا إنجازات ورفعوا مكانة أمم.

***

عشنا زمن مانديلا، وكان من شركائه فى هذا الزمن أو فى جزء منه ماو تسى تونج الذى أرسى الأسس التى قامت عليها دولة الصين الحديثة وتابعت مسيرته ملايين من البشر فى كل أنحاء العالم، وكثير منها انضم إليها غير عابئة بما أصاب صورة المسيرة والرجل نفسه من تشوهات عندما أطلق الثورة الثقافية من عقالها. شاركه أيضا فى زمنه تشى جيفارا، الشاب الذى أبهر ملايين الشبان والشابات واحتلت ملصقات صورته الشهيرة غرف النوم وقاعات الدرس فى معظم جامعات العالم، ومات بطلا على أيدى أشد أعدائه كراهية له، وهم عملاء جهاز الاستخبارات الأمريكية. راح الرجل وبقى الوجه فى الصورة الشهيرة مكسوا بمسحة اكتئاب لم تفارقه أو تمحوها عينان مشتعلتان بالثورة والغضب.

وفى زمن مانديلا عاش جوزيف تيتو الرجل الذى قاد حربا شعبية ضد النازيين ووحد بلادا مزقتها القوميات والحروب والفقر على امتداد عقود، وتجاسر، وهو الشيوعى الملتزم، فرفض الخضوع للاتحاد السوفيتى وحافظ على استقلال يوغوسلافيا ووحدتها وأخلى لها مكانا متميزا فى عالم العلاقات الدولية. ثم حان موعد الشيخوخة، وعندها يزداد التشبث بالسلطة وينفلت عيار الحزب الواحد ويتفاقم الفساد، وهو ما حدث فى أواخر عهده متسببا فى سقوط وطنه فى حرب أهلية انتهت بوقوعه تحت احتلال أجنبى. بكلمات أخرى شوهت الصورة الرائعة للزعيم المناضل بانى الدولة الحديثة.

***

وهناك فيدل كاسترو، الزعيم الذى نزل بحفنة من الرجال من سلسلة جبال سييرا ماديرا إلى سهول هافانا كاسحا أمامه حكما مستبدا على رأسه دكتاتور كرس حياته لخدمة مصالح الشركات الأمريكية. أقام كاسترو نظامه ونشر العدالة الاجتماعية وحقق إنجازا نادرا حين قضى على الأمية وأقام خطة للرعاية الصحية تغطى كل المواطنين بدون استثناء واختار فى آخر أيامه أن يتخلى عن السلطة. كان يستطيع فى تلك الفرصة أن يترك للتاريخ صورة ناصعة، ولكنه لم يفعل. قرر تنصيب شقيقه راؤول خليفة له فى حياته وبعد مماته مشوها بقراره صورة كان يمكن أن تظل رائعة.

وفى الولايات المتحدة ظهر زعيم سياسى سلب ألباب غيره من رجال ونساء العالم، كان جون كينيدى أسطورة سعى لتقليدها عديد من قادة أمريكا والعالم ومازال آخرهم، وأقصد باراك أوباما، يسعى بدون جدوى، ومثل سابقاتها لم تفلت صورة كينيدى من التشويه. فلم يكن قد مضى على اغتياله ساعات إلا وسرت روايات عن المغامرات الجنسية التى اشتهرت بها عائلة كينيدى، وبخاصة فضيحة البحيرة التى غرقت فيها إحدى العشيقات وجرى التعتيم عليها حتى أيام قليلة مضت حين ظهر فى المكتبات الأمريكية كتاب جديد يعيد فتح ملفات أكثرها يشوه صورة الأسطورة.

***

وفى أفريقيا عاصر مانديلا منذ البداية روبرت موجابى حين كان شابا يلتف حوله الشبان فى معاهد انجلترا وهو يرتدى زيه العسكرى ويكافح من أجل استرداد روديسيا، حلم الرجل الأبيض فى أفريقيا. وعلى أيدى موجابى وجماعته فى حركة زانو تحقق الاستقلال واسترد موجابى معظم الأراضى من المستوطنين، وخلال حكمه توقفت بطولاته وصار كهلا مستبدا وخاسرا وعنيدا، بل وسخيفا أيضا.

وفى عالمنا العربى، كان عندنا عبد الناصر، سابقا على زمن مانديلا ومعاصرا لبداياته، بعث الأمل فى أمة أهلكها الاستعمار العثمانى ومن بعده الاستعمار الغربى وكبلتها القبلية والعشائرية وأصيبت بالفيروس الصهيونى، واختفى الرجل مخلفا صورة شوهتها هزيمة عسكرية حطمت صروحا عديدة وأخرجت من رحم الأمة أسوأ ما كان يحمله هذا الرحم.

ويبقى لنا نحن العرب من زمن مانديلا معمر القذافى، الرجل الذى رفض أن يترك لنا صورة واحدة معقولة تتذكر صاحبها بالخير الأجيال القادمة فى ليبيا أو خارجها. ترك سجلا تؤكد كل فقرة فيه الحال الذى انحدر إليها الإبداع الفكرى والسياسى وعاشت فيها الأمة العربية ردحا من الزمن، كانت آخر إبداعات هذا السجل إعلان الدعوة إلى الجهاد الإٍسلامى العالمى ضد سويسرا سبب تهورها حتى عندما قرر مسئولون فيها تطبيق القانون على «المحروس» نجل الزعيم.

***

ذهب مانديلا، قبل أيام قليلة، إلى اجتماع مخصص لتكريمه وليستمع إلى خطاب يلقيه رئيس جمهورية جنوب أفريقيا جاكوب زوما، الذى اعتذر عن وصوله إلى الحفل متأخرا، مبررا هذا التأخير بأنه كان فى المستشفى، حيث أنجبت له ابنة صديقه طفلا منه، ليصبح لديه تسعة عشر من الأولاد والبنات ثمرات زيجات خمس وعلاقات أخرى».

صور عديدة تشوهت وبقيت صورة مانديلا ناصعة. أذكر خطابه يوم تسلمه منصب الرئاسة وبخاصة حين أطلق عبارة يقول فيها «أقف أمامك أيها الشعب ليس كنبى ولكن كخادم..». أحسن الرجل صنعا حين رفض التجديد له فترة أخرى فاحتفظ بصورته ناصعة وبطلّته بهية وحلوة.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي