من الطريف أن من أكثر الانتقادات التى يوجهها المحللون للرئيس أوباما أنه أخذ على عاتقه العديد من القضايا فى آن واحد مع بداية ولايته الأولى، مما يعرضه للفشل المبكر، وهو اتهام يدرج تحت مقولة «حق يراد به باطل»، فلقد تولى الرئيس الأمريكى الجديد الرئاسة الأمريكية والعالم على وشك الانهيار الاقتصادى، وهناك مخاطر جمة سياسية وأمنية فى مختلف أنحاء العالم، وفرضت بعض الأحداث نفسها على الرئيس الجديد دون أن يسعى إليها، فحملته الانتخابية بدأت بأنه سيركز على الانسحاب من العراق إلا أنها انتهت بالحديث عن الأزمة المالية، ولم يتحدث المرشحون لمنصب الرئاسة عن عملية السلام العربية إلا مرة واحدة أمام مؤتمر اللجنة الأمريكية الإسرائيلية Aipac، متجاهلين القضية طوال عامين من المنافسات إلا أن أحداث غزة المؤسفة، وانتخاب حكومة إسرائيلية جديدة لم تلتزم بمواصلة المفاوضات سعيا وراء السلام على أساس دولتين فرضا على الرئيس الجديد التعامل مع هذه القصة أيضا.
لاشك أن الأحداث فرضت نفسها على الرئيس الأمريكى الجديد، وإنما يحسب له أن الرئيس الأمريكى طرح موقفا أمريكيا مختلفا تجاه الشرق الأوسط يجب علينا الاستفادة منه واستثماره فلم يخف أن الأولوية للانسحاب من العراق وإنما أكد أيضا أن قضايا الشرق الأوسط كلها «مترابطة» وأن تحريك أحدهم يؤثر فى القضايا الأخرى خصوصا إذا كان هذا التحريك مرتبطا بعملية السلام العربية الإسرائيلية، بكل ما تحمله من انعكاسات على المناخ العام بالمنطقة، وعلى قضايا أخرى مثل العلاقة مع إيران، ولبنان، والعراق، والارهاب والتعامل مع الغير، وصورة الولايات المتحدة فى المنطقة لدى الرأى العام العربى والإسلامى بشكل خاص، علاقة أشار إليها فى خطابه بمناسبة حلف اليمين وعن عزمه بلورة علاقة جديدة مع العالم الإسلامى على أساس الاحترام المتبادل.
وتحرك الرئيس الأمريكى الجديد سريعا فى تعيين مبعوث خاص لعملية السلام العربية الإسرائيلية السفير جورج ميتشل، المفاوض المخضرم من تجربة إيرلندا، والذى سبق أن دعا إلى وقف الاستيطان ووقف العنف، وكلها إشارات لها مغزى إيجابى، والأهم منها أن الإدارة بدأت تتحدث عن أن السلام العربى الإسرائيلى يدعم الأمن القومى الأمريكى، بعد أن ظلت تركز لسنين طويلة على تحقيق الأمن والأمان الإسرائيلى كمبرر رئيسى لتحركها.
ومن ضمن الإيجابيات من المنظور العربى تأكيد أوباما على أهمية بدء مفاوضات الحل النهائى الفلسطينية الإسرائيلية على أساس إقامة دولتين، ردا على ما صدر من إسرائيل من تشكيك فى هذا الحل، بل ترحيبه باعتبار المبادرة العربية إحدى ركائز السلام فى الشرق الأوسط، وعزمه مقابلة قادة دول المنطقة المعنية بشكل مباشر بالقضية مصر والأردن وإسرائيل والرئيس الفلسطينى قبل منتصف الصيف القادم، للتحاور معهم حول هذه القضية وسبل تحريكها.
اعتبر جميع هذه الخطوات من الإيجابيات لأنها تضع عملية السلام على أولويات الساحة السياسية العالمية مرة أخرى، كما أنها تعكس أن الرئيس أوباما لم يسمح للحسابات السياسية التقليدية وتوازناتها حتى الآن بأن تؤجل تناوله لعملية السلام فى الشرق الأوسط كما فعل خلال الحملة الانتخابية، وآمل أن يكون مؤشرا حقيقيا أن إدارته ستسعى مبكرا لحل النزاع العربى الإسرائيلى وبشكل دائم من بداية ولايته الأولى.
وأقول ذلك وأضعه فى مقام «الآمال» لمعرفتى بأوباما خلال فترة تمثيلى لمصر بالولايات المتحدة، وهو فعلا شخصية قوية وثاقبة وقديرة على تقييم حقيقة الأمور ومتطلبات التحرك، غير أن التجربة علمتنى التريث وعدم استباق الأمور خصوصا بالنسبة للنزاع العربى الإسرائيلى، فضلا عن أن زيارتى الأخيرة للولايات المتحدة منذ أشهر قليلة شملت الالتقاء بعدد من المفكرين والمحللين والمسئولين، أجمعوا على كفاءة أوباما وميله نحو التحديات الكبيرة، مع تحذير البعض من مغبة التسرع فى مناخ سياسى غير موات بالمنطقة إزاء توجهات الإدارة الاسرائيلية الجديدة غير المؤيدة لإقامة دولة فلسطينية والدخول فى مفاوضات سياسية الآن، ووضع فلسطينى مأساوى منشق على نفسه على الرغم من الجهود المصرية الحثيثة لإيجاد مصالحة فلسطينية فلسطينية أو معادلة للتعاون بما يحافظ على الحقوق الفلسطينية وفرص إقامة دولته فى المستقبل المنظور، وينصح هؤلاء أوباما ومساعديه بالتركيز على إجراءات بناء الثقة مثل تخفيف الإجراءات المزمنة ضد الفلسطينين، وإزالة بعض نقاط التفتيش الإسرائيلية وتوفير دعم اقتصادى للفلسطينيين، وهى منهجية أخشى أن تفقدنا الاستفادة من الزخم السياسى والتأييد الواسع الذى يحظى به الرئيس الأمريكى بما يوفر له مساحة أفضل لاتخاذ قرارات سياسية جريئة ومبدئية بما يحقق السلام الشامل والدائم بين العرب وإسرائيل.
لقد أظهر أوباما الشجاعة السياسية المطلوبة بإعلان رغبته فى تحقيق سلام عربى إسرائيلى شامل، وما اتخذه من إجراءات وتحركات مؤسسية مختلفة، والصراع الآن سيكون حول عقل أوباما وحسه السياسى، فالحكومة الإسرائيلية بتوجهاتها غير الإيجابية ستعمل على تهدئة حماس والرئيس الأمريكى الجديد، وفى مفاوضات الحل النهائى يتقدم منهج جديد لمسيرة السلام خلال الزيارة المقبلة لنتنياهو لواشنطن، لتغيير الدفة السياسية وإضاعة الوقت إلا اصطدام أوباما بعواصف دولية أخرى، تجذب انتباهه بعيدا عن هذه القضية، على غرار طرح أريل شارون الانسحاب الأحادى من غزة، ردا على خريطة الطريق التى طرحها الرئيس بوش.
فى المقابل يتوقع أن يتمسك القادة العرب الرئيس مبارك والرئيس الفلسطينى محمود عباس، وكل من يدرك أن الشرق الأوسط أصبح منطقة مشتعلة ومستقطبة بين راغبى الحصول على الحقوق بالتفاوض، ومن هم غير مقتنعين بجدوى ذلك نتيجة لإخفاقات الماضى، أو رغبة فى استغلال الفشل والإحباط العام لخدمة مصالح خاصة أو وطنية على حساب الحقوق العربية، وينطبق ذلك على النزاع العربى الإسرائيلى ويتعداه ليشمل أغلب مشاكل المنطقة من المشرق إلى المغرب، والخليج العربى إلى البحر المتوسط، وسيدفعون بضرورة التعامل سياسيا مع عملية السلام، بغية إنهاء الصراع جوهريا وليس تأجيله على أساس إنهاء الاحتلال الإسرائيلى لأراض عربية عام 1967، وإقامة السلام على أساس المبادرة العربية، فضلا عن ضرورة وقف الإجراءات الإسرائيلية التى تهدم فرص التوصل إلى اتفاقات سلام خاصة مع الجانب الفلسطينى باستيلاء إسرائيل على مزيد من الأملاك الفلسطينية بالتوسع فى النشاط الاستيطانى والتوسع فى تهويد القدس لعرقلة إقامة عاصمة فلسطينية منها.
توجهات الرئيس أوباما نحو الدبلوماسية والحوارات الإقليمية وغير الإقليمية، والتعامل مع عدد من الموضوعات الإقليمية فى آن واحد، من أفغانستان للعراق لعملية السلام، لمنع الانتشار النووى، وغيرها من القضايا مثل التحاور مع العالم الإسلامى، هذه التوجهات من شأنها أن تخدم تنامى العلاقات المصرية الأمريكية مرة أخرى، بعد مرحلة من الركود والحزازات خلال ولاية الرئيس بوش، فمصر فى النهاية أكثر دول المنطقة تمرسا ونشاطا وتناولا للعديد من القضايا الإقليمية، وظهور أطراف أخرى حول قضايا بعينها لا يقلل من مقام مصر أو أهميتها، وأعلم أن الرئيس أوباما يعلم ويقدر ذلك جيدا، حيث سبق لى أن تحدثت معه حول العديد من الموضوعات خلال وجوده فى مجلس الشيوخ من دارفور إلى عملية السلام ومع الانتشار النووى، وليس مصادفة أن يختار الرئيس مبارك كأول رئيس عربى يجرى الرئيس الأمريكى معه اتصالا بعد توليه مقاليد السلطة فى الولايات المتحدة.
لا أقصد بذلك أن المواقف الأمريكية ستتطابق مع الطرح المصرى، أو أن المستقبل لن يشهد اختلافات بين الإدارة الأمريكية الجديدة ومصر، بل أتوقع أن يختلف حول بعض حوادث قضية دارفور وعملية السلام العربية الإسرائيلية، وأن فى الاختلافات غير المتواصلة علامة صحية، ودلالة على استقلالية قرارنا، فلا يمكن أن تتطابق مواقف دولة إقليمية الأساس مع أولويات دولة عالمية إلا على حساب الطرف الأول، وإنما المشكلة لا تكمن ولم تكن فى اختلافنا مع الإدارة الأمريكية السابقة، وإنما فى أسلوب الإدارة فى التعامل مع الاختلافات أو الخلافات، حيث رأت الولايات المتحدة حينذاك وخصوصا فى أعقاب أحداث 11 سبتمبر أنه لا مجال أو مساحة للاختلافات، وأنه على الجميع الالتفاف حول السياسات الأمريكية، وسمحت لنفسها فى بعض ممارساتها بتجاوز حدود العلاقات حتى بين الدول الصديقة، وقد حذرت الإدارة الأخيرة بصراحة تامة أن ممارسات معينة من جانبها إذا استمرت ستضع حدود للعلاقة بين البلدين، وتجعل الحفاظ على العلاقات هو الهدف وليس تنميتها وبلورتها، وهو ما حصل بالفعل.
والخلاصة هى أننى أتوقع أن تعود العلاقات المصرية الأمريكية إلى طبيعتها فى ظل الرئاسة الأمريكية الجديدة، مع توافر مساحة مناسبة وملائمة للاتفاق والاختلاف والحفاظ على مصداقية واستقلالية كل طرف، وهو توازن يسمح بتطوير العلاقة وأطرها ومجالاتها بما يواكب التحديات الدولية الجديدة، مادمنا لم نكتف بالاعتماد على تاريخ العلاقة والإنجازات المشتركة منذ استئنافها على مستوى القرار عام 1974، أو اختزلناها فى قضية واحدة، اتفقنا أو اختلفنا حولها، مثل مكافحة الإرهاب أو الإصلاح الاقتصادى والسياسى، أو حجم المساعدات الأمريكية لمصر، أو حتى عملية السلام العربية الإسرائيلية، فقيمة مصر للولايات المتحدة أكبر من قضية بعينها، ومصالح مصر مع الولايات المتحدة تتجاوز نطاقنا الأقليمى التقليدى فى الشرق الأوسط وأفريقيا إلى العديد من الآفاق الدولية فى تحديد الأجندة الدولية على المستويات السياسية وعلى رأسها القواعد التى تحكم حل النزاعات الإقليمية والدولية، والأمنية خصوصا قضية عدم الانتشار النووى، والاقتصادية والتجارية فى إطار قواعد التجارة الدولية، والاجتماعية بما فى ذلك ضمان المساواة فى الحقوق والمسئوليات لشعوب العالم واحترام معتقداتهم دون تفرقة أو تمييز.