هو صراع على العقل، وليس على الضمير، لأن الضمير المصرى ــ فيما تدل عليه كل الشواهد ــ لايزال صحيحا معافى من محاولات تزييف الوعى العام، التى تخاطب العقل لتضلله ولا تخاطب الضمير لأنه غير قابل للتضليل بذاته.
من الشواهد التى تؤكد أن ضمير مصر لايزال بخير، تلك النتيجة لاستطلاع رأى عدد من كبار المثقفين المصريين على هامش منتدى مصر الاقتصادى الدولى فى الأسبوع الماضى، وهى النتيجة التى نشرتها «الشروق» يوم الخميس الماضى على صفحتها الأولى، والتى كان مضمونها أن 2٪ فقط من هذه العينة هم الذين يعتبرون إيران خطرا على الأمن القومى العربى، فى حين أن 49٪ اعتبروا أن إسرائىل لاتزال هى الخطر، وأن الانقسام العربى لا يقل خطرا على الأمن العربى من إسرائيل فى رأى 49٪ آخرين.
حقا لم يستوف هذا الاستطلاع كل الشروط المنهجية العلمية، ولكن دلالته حتى بالطريقة التى جرى بها بالغة الوضوح، خاصة أنه كان اختياريا، بمعنى أن الأسئلة قدمت لمن يرغب فى الإجابة عنها فقط من بين الحاضرين، وتطوع 70 شخصية عامة للإجابة، ومنهم وزراء سابقون، وسفراء، وكتاب وإعلاميون، والأهم أنه كان منهم عدد كبير جدا من رجال الأعمال المتهمين ظلما ــ على ما يبدو ــ أنهم يقيسون كل شىء بالمال.
شاهد آخر بالغ الأهمية، وليس بالغ الدلالة فقط أن أحد أبرز الشخصيات التى شاركت فى هذا الاستطلاع، وكان قطبا من أقطاب الدبلوماسية المصرية، قال لى بعد أن عبر عن دهشته، وعن سعادته بالنتجة فى آن واحد: إن المعنى هو أن الغريزة السياسية للنخبة مصرية سليمة، ولما سألته: وكيف تفسر هذه الفجوة بين التوجه الرسمى، وبين إدراك النخبة والرأى العام، أجاب بأن لديه من الخبرة المباشرة ما يجعله يعتقد أن الرئيس حسنى مبارك شخصيا يمتلك هذا الحس السليم، وأن غريزته السياسية أيضا سليمة، وجيدة للغاية، ولكن يبدو أن هناك مؤثرات داخلية وخارجية على السياسة المصرية مرتبطة بوقت ما، وجدول أعمال ما.. ولم يضف الرجل إلى ذلك سوى الابتسامة، وإيماءة العين وهزة الرأس التى تعنى كلها: «افهم ما أريد قوله.. دون أن أقوله».
ولقد فهمت أو حاولت أن أفهم.. وكان أهم هذا الذى أدعى أننى فهمته أن هناك صراعا بين اتجاهين فى النخبة المصرية على عقل الرئيس الإستراتيجى، موازٍ للصراع على العقل المصرى الجمعى بين تيار يغلب التفاهم حتى درجة التحالف السياسى بين مصر وإسرائيل، وتيار آخر يؤمن بموازنة التفوق الإستراتيجى والخطر الإسرائيلى باجماع إقليمى عربى إسلامى تشارك فيه إيران، فإن لم يتيسر هذا الاجماع، فلا أقل من تحسين العلاقات، والتعاون فيما نحن متفقون عليه، وعدم الانزلاق إلى القضايا الخلافية، وإعطائها الأولوية المطلقة على كل شىء.
هذا التيار الأخير، الذى ينتمى إلىه كاتب هذه السطور، لا ينكر أن إيران لها أطماع، وأنها ارتكبت أخطاء فى حق مصر والعرب، وأنها يمكن أن ترتكب أخطاء تالية، وأن أبرز هذه الأخطاء التى تصل إلى حد الخطايا هو عدم كبح جماح الجناح الذى لا يتورع عن التدخل فى الشئون الداخلية للدول العربية والإسلامية الأخرى، ولكن التيار الأول يبالغ كثيرا فى تضخيم هذه الأخطاء والأطماع، إلى حد الحديث عن عمليات منظمة وممولة تمويلا سنيا لنشر التشيع فى بلاد السنة، ولبث الاضطرابات الداخلية، بما يهدد الاستقرار، بل ويهدد نظم الحكم نفسها، أو يهدد أمن القيادات السياسية فى البلاد التى تناوئها إيران، ولكن هل يفترض أن نقتنع بأن دولة فى حجم مصر، يمكن أن تكون أوضاعها هشة إلى الحد الذى يهدد أمنها الداخلى ونظامها السياسى تبادل السفراء والسفارات مع إيران؟.. ولماذا لم يسأل أحد من المروجين لهذه المخاوف التى تعرقل حوار مصرى إيرانى نفسه عن أسباب عدم نجاح إيران بحرسها الثورى، وأموالها الوفيرة فى زعزعة دول الخليج التى تتبادل معها العلاقات دون لحظة انقطاع واحدة، ورغم أن هذه الدول كلها تضم نسبا كبيرة من المواطنين الشيعة؟.. ولماذا لا تبدى تركيا السنية كل هذه الحساسية نحو العلاقات مع إيران؟.. مع أن تركيا كانت تاريخيا وجغرافيا هى ممثلة الإسلام السنى فى الصراع مع الإسلام الشيعى ممثلا فى إيران الصفوية.
أن أى إجابة متأنية عن هذه الأسئلة سوف تظهر أن المصدر الرئيسى للإعجاب الشعبى بإيران فى الدول الإسلامية السنية، وكذلك للإعجاب بحلفائها الإقليميين خاصة حزب الله وحركة حماس، هو ما يسمى بالممانعة أو المقاومة لهيمنة إسرائيل على مقدرات الإقليم، ورفض تكريس التفوق الإسرائيلى الكاسح على جميع دول المنطقة. وهكذا، فإن ما يروج له أنصار تيار التحالف السياسى مع إسرائيل ضد إيران فى مصر وغيرها من دول ما تسمى بالاعتدال العربى هو بالذات مصدر قوة النفوذ أو الإلهام الإيرانى للرأى العام فى هذه الدول، وهذا فى حد ذاته دليل آخر على أن أغلبية المواطنين العرب والمسلمين لا يصدقون أن إسرائىل باختياراتها السياسية الراهنة لم تعد عدوا أو خطرا على مصر وبقية الدول العربية.
وعودة إلى مصر تحديدا، فإن منطق الأمور يقضى بأن تكون هى المقرر الرئيسى لجدول أعمال المنطقة، ولا تقيم سياساتها على رد الفعل، والتحرز من سياسات الآخرين، ولا جدال فى أن قيادة مصر للسياسات الإقليمية لا يعنى أن تكون قيادة نحو الحرب بالضرورة، ولكن هذه القيادة تكون فى السلام كما فى الحرب، وهو ما حدث بالفعل حين قبلت القاهرة مبادرة روجرز فى أثناء حرب الاستنزاف، وحين تحولت إلى التفاوض بعد حرب أكتوبر مباشرة، وبلغت هذه القيادة أو الريادة المصرية ذروتها بمبادرة السادات بالذهاب إلى القدس، ثم بتوقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، ومن ثم وضعت المنطقة على طريق التسوية السلمية للصراع العربى الإسرائيلى، رغم معارضة معظم العواصم العربية ولكنه كان لابد للقاعدة التى تقول إنه لا حرب عربية إسرائيلية دون مصر أن تفرض نفسها على الجميع، ولا شك أيضا أنه لايزال من مصلحة العرب والفلسطينيين الإستراتيجية استكمال محاصرة إسرائيل بمطلب السلام والتسوية العادلة، وهذا أيضا من أهم أركان السياسة المصرية إلا أنه على المروجين لفكرة التحالف السياسى مع إسرائيل لأنها لم تعد عدوا، ولمبدأ أن إيران هى الخطر المحدق، أن يفهموا أن العداء لإيران «عمال على بطال» على هذا النحو يحقق مصلحة إستراتيجية إسرائىلية فى التهرب من استحقاقات السلام لأنه يفقد السياسة المصرية أداة مهمة فى الضغط على إسرائيل بورقة الإجماع الإقليمى، أو توزيع الأدوار الإقليمية، وعليهم أيضا أن يدركوا أن ما يساهم فى إضعاف قيادة مصر للإقليم هو الخذلان الإسرائيلى الأمريكى المتكرر لجهود السلام المصرية ــ العربية، واستمرار العمل فى السر والعلن على عرقلة الجهود المصرية لتحقيق توازن الردع فى المنطقة، وليتصور المدافعون عن فكرة التحالف السياسى مع إسرائيل أنها كانت قد استجابت لاستحقاقات السلام منذ مؤتمر مدريد، فهل كان يمكن لإيران أن تجد شخصا و احدا تلهمه نظرية الممانعة، أو عمليات المقاومة؟
مرة أخرى ليس صحيحا ــ وكما ذكرنا فى الأسبوع الماضى ــ أن التطرف فى إسرائىل هو رد فعل للتطرف العربى الإسلامى، وقد كان هناك متسع من الوقت منذ «مدريد» وحتى ظهور حماس وحزب الله ــ كقوى مؤثرة ــ للتوصل إلى تسوية مع «عرفات والأسد الأب».. ولكن إسرائيل لا تريد حتى إشعار آخر الانسحاب من الضفة الغربية، وإذا كانت تفكر أحيانا فى الانسحاب من الجولان، فإنها تفكر فى ذلك ثمنا لبقائها فى الضفة، وتريد فوق ذلك كله أن تحتفظ بتفوق إستراتيجى كمى ونوعى إلى مالا نهاية، وهذا ما يعيدنا إلى أهمية العلاقات المصرية الإيرانية، والعربية الإيرانية، التى يجب أن تستخدم فى إقرار مبدأ الأمن الجماعى والزام إسرائيل به، مضافا إلىها العلاقات المصرية التركية، والعلاقات العربية التركية بالطبع.
الغريب فى أمر هؤلاء الذين يؤمنون بمبدأ «العدو الإيرانى» أنهم لا يعرفون، أو يتجاهلون أن إسرائيل والولايات المتحدة هما الآن اللتان تفكران ــ نيابة عنا ــ بمبدأ ربط السلام العربى الإسرائيلى بمبدأ تسوية الملف النووى الإيرانى، وهذا ليس كلاما مرسلا ولكنه معلومات نشرتها صحف أمريكية وإسرائيلية نافذة نقلا عن مسئولين كبار فى إدارتى أوباما الأمريكية ونتنياهو الإسرائيلية، فمن واشنطن تترى التقارير عن أن أوباما سوف يشترط على نتنياهو قبول حل الدولتين، لكى تعمل إدارته على تسوية ملف إيران النووى بما يجعلها لا تنتج سلاحا تهدد به أمن إسرائيل، وردا على ذلك تسربت تقارير إسرائىلية تقول: إن رئيس الوزراء نتنياهو هو الذى سيشترط على أوباما أن يريح إسرائيل مرة واحدة وإلى الأبد من خطر التسلح النووى الإيرانى، مقابل الموافقة على قيام دولة فلسطينية مستقلة.
..صح النوم يا مصر!
صح النوم يا عرب!