تستطيع أن تشارك الدكتور بطرس غالى الأسى والحزن عندما تسمعه يعترف بأن أبرز أخطائه المهنية يتمثل فى عدم قدرته، خلال فترة عمله الدبلوماسى، على إقناع الرأى العام المصرى والحكومة المصرية بأهمية القارة الأفريقية.
الدبلوماسى الكبير والمفكر السياسى المرموق الذى كان جزءا من الإدارة المصرية ومن وزارة الخارجية طوال سنوات أغلبها فى عصر مبارك، قال ذلك للزميل خيرى رمضان فى يناير 2010 حين كان خيرى يقدم برنامج «البيت بيتك» وكتبت عنه فى وقتها هذا الكلام:
«يضع غالى الكبير أيدينا ببساطة ووضوح على جزء مهم من ذهنية صانع القرار فى مصر خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ويمنحنا الفرصة لفهم قليل مما جرى، وفهم طبيعة وعقل من يدير شئوننا».
ما قاله غالى يفسر لك عدة أشياء على صعيد السياسة الخارجية، ويفسر لك أيضا تراجعا مصريا كبيرا فى حشد الدعم الدولى لقضاياها ومعاركها دوليا، ويفسر لك أيضا حجم الأزمة التى تفاقمت فى حوض النيل حتى وصلت إلى تصعيد غير مسبوق دفع الحكومة إلى الحركة فى وقت متأخر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهو تحرك كان سيكون أيسر وأسهل وأقل كلفة لو تم فى إطار سياسة عامة تولى اهتماما بالقارة على قدر ما تستحق.
غالى يقول: «لو أخبرت دبلوماسيا الآن بأن خدمته ستكون فى نيروبى لسألنى: (هو إنت زعلان منى ولا إيه يا دكتور؟)، رغم أن نيروبى أهم ١٠٠ مرة من دول أوروبا». والحقيقة أن هذه ليست فقط ذهنية أى دبلوماسى صغير، بقدر ما هى قناعة عامة لدى صناع القرار (سياسيا ودبلوماسيا) تجعل هناك حرصا بالغا على زيارة بولندا ورومانيا والتشيك كل عام، دون تفكير فى طرق رئاسى لأبواب نيروبى ولا أديس أبابا ولا حتى جوهانسبرج مرة واحدة فى عشر سنوات.
لك أن تعرف أن غالى قضى إلى جوار النظام أول عشر سنوات من حكمه قبل أن يذهب إلى نيويورك لتولى مهام الأمين العام للأمم المتحدة، وكما يقول فشل فى إقناعه بأهمية القارة الأفريقية، وهى دلالة واضحة على انحيازات النظام المبدئية وقناعاته الأساسية، إلى جانب أنها دلالة مهمة على حجم احتفائه بالنصح والاستشارة خاصة إذا ما كانت قادمة من شخص مثل بطرس غالى، جزء من النظام ومن الإدارة المصرية وابن عائلة لديها انتماء واضح لمؤسسة الحكم أيا كان شكلها، إلى جانب خبراته الشخصية كواحد من أعمدة الدبلوماسية المصرية ومن كبار مفاوضيها وكعالم فى السياسة والعلاقات الدولية.
كنت أتعجب عندما ألتقى دبلوماسيا أفريقيا فيؤرخ لعلاقة مصر بالقارة السمراء سياسيا بزمن بطرس غالى، ويعتبر أن الدبلوماسية المصرية بعد تقاعد غالى فقدت آخر دوائر الاهتمام بالقارة، وهو اهتمام كان يلح عليه الرجل بشكل شخصى ويبادر به دون انتظار التكليفات الرسمية التى لا تجىء.
لكن غالى خرج من الخدمة وخرجت معه مصر من مناطق نفوذها وتأثيرها فى القارة السمراء، ودخلت إسرائيل وإيران والصين وجنوب أفريقيا لملء هذا الفراغ الذى تركته القاهرة طواعية وبكامل إرادتها، لأن حكوماتها ظلت غير مقتنعة بأهمية القارة التى تنتمى إليها وتمثل أكبر كتلة تصويت فى أى محفل دولى، وتشاركها الجغرافيا والتاريخ وموارد المياه» .