فى مدينة أوفالدى بولاية تكساس الأمريكية لم يكن يوم 24 مايو يوما كباقى الأيام. فى هذا اليوم استيقظ الصبى سالفادور راموس الذى احتفل بعيد ميلاده الثامن عشر منذ ثلاثة أيام وأهدى نفسه فى هذه المناسبة بندقيتين آليتين اشتراهما من متجر للسلاح وأخذ فوق البيعة 350 طلقة تكفى لاقتحام حصن الباستيل وخط ماجينو!
قابل فور استيقاظه فى ردهة منزل جدته التى يعيش معها، وبدلا من أن يطبع قبلة على جبهتها عاجلها برصاصة استقرت فى رأسها وتركها تصارع الموت. ثم خرج من المنزل ليستأنف لهوه البرىء بلعبته المفضلة وتوجه إلى مدرسة روب الابتدائية، وقبل أن يدلف إليها أطلق دفقة من بندقيته الآلية على دار للجنازات تقع على الجانب المقابل من الطريق ليعلن عن وصوله، ثم دلف إلى المدرسة ليلعب لعبة الكاوبوى والهنود الحمر التى تربى مع أجيال عديدة عليها مع تلاميذ المدرسة وفتح نيران بندقيته فقتل 19 تلميذا وأصاب 17 آخرا بجروح، تتراوح أعمارهم بين 9 سنوات و11 سنة، واثنين من المدرسين.
أرسلت المدرسة استغاثة إلى الشرطة على الرقم الشهير 911 فى الساعة 11 وخمس عشرة دقيقة ووصلت الشرطة مشكورة إلى المدرسة فى الساعة 12 وخمسين دقيقة! وأطلقت النار على المجرم وأردته قتيلا بعد أن سالت الدماء ووقعت المذبحة.
تعد مذبحة مدينة أوفالدى الثانية والعشرين التى تقع منذ بداية العام، سبقتها بعشرة أيام فحسب مذبحة فى مدينة بافالو فى ولاية نيويورك، حيث اقتحم صبى آخر فى الثامنة عشرة من عمره سوبر ماركت وأطلق سلاحه النارى فقتل عشرة أشخاص، وخلال سنوات طويلة لم تسلم ولاية من الولايات الخمسين من حوادث مشابهة سقط فيها العشرات من القتلى والجرحى فضلا عن الآثار النفسية الناجمة عن هذه الحوادث، ولعلى أتساءل عن مستقبل الأطفال الناجين من مذبحة تكساس الذين تتراوح أعمارهم بين التاسعة والعاشرة، ومن ردود فعل هذا الحدث عليهم وعلى مستقبل حياتهم.
• • •
وبعد كل حادث من هذه الحوادث تحدث هبَّة شعبية وإعلامية تطالب بوضع ضوابط وقيود على بيع وتملك السلاح النارى لحقن دماء الأبرياء، وهو مطلب عادل ومشروع، إلا أن الأمر يسيس ويتحول إلى صراع سياسى بين قطبى الساسة الأمريكيين؛ الحزب الجمهورى الذى يتمسك بحق المواطنين فى حمل السلاح وفقا للتعديل الثانى فى الدستور التى وردت ضمن مدونة الحقوق Bill of Rights التى أقرها الكونجرس فى عام 1791، وبين الحزب الديمقراطى الذى يسعى إلى حقن الدماء. ولكن كيف نفسر تعثر كل الجهود لوضع ضوابط على السلاح رغم سيطرة الحزب الديمقراطى فى مرات عديدة على الأغلبية فى مجلس النواب والشيوخ وكرسى الرئاسة؟.
وراء التصدى لكل جهد لتحجيم تداول السلاح فى الولايات المتحدة تقف منظمة رابطة البنادق الوطنية National Rifle Association (NRA) التى وصفتها مجلة فوربس، التى تحظى بتقدير واحترام فى أوساط الإعلام والأعمال فى عام 1999، بأنها أقوى منظمة فى الولايات المتحدة لمدة ثلاث سنوات متوالية، ويبلغ عدد أعضائها خمسة ونصف مليون عضو.
تأسست الرابطة فى مدينة نيويورك فى عام 1871 على يد المحامى George Wood Wingate والصحفى William Conont Church، حارب كلاهما فى جيش الاتحاد الشمالى أثناء الحرب الأهلية واطلعا على تقرير بعد الحرب بأن الجيش كان يحقق إصابة لكل ألف طلقة بسبب جهل الجنود بمهارات الرماية، فأنشأت الرابطة التى بدأت بعيدة تماما عن السياسة وكان نشاطها يدور حول إنشاء ميادين الرماية ونوادى السلاح ودعم رياضة صيد الطرائد ولاقت الرابطة دعما من شركات صناعة البنادق والأسلحة النارية خاصة شركتى Bemington وSpringfield.
إلا أنه سرعان ما أصبحت الرابطة مكمنًا لليمين السياسى ودعاة تفوق الجنس الأبيض والتعصب، وصارت تعكس الصورة المقولبة للأمريكى كما يتصور نفسه: الرجل الذى يقتحم المخاطر ويقهرها بسلاحه الكاوبوى الذى خلص الأرض من بربرية الهنود الحمر والذى غزا الغرب حتى وصل بالمدينة من المحيط الأطلسى إلى المحيط الهادئ. النموذج الذى قدمه فى هوليوود جارى كوبر وجون وين صارت الرابطة طوطم يطوق حوله كل من له طموح سياسى، واجتذبت إلى عضويتها تسعة من رؤساء الولايات المتحدة؛ أولهم الجنرال يوليسيس جرانت قائد جيوش الشمال فى الحرب الأهلية، وثيودور روزفلت، والرئيس هارى ترومان الذى أمر بإلقاء القنبلة النووية على اليابان، والجنرال أيزنهاور قائد جيوش الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية، والرئيس رونالد ريجان، وجورج بوش الأب، وكلهم من الحزب الجمهورى، وكان الرئيس جون كينيدى هو الرئيس الديمقراطى الوحيد العضو فى الرابطة. وجدير بالذكر أن الكولونيل أوليفر نورث بطل قضية إيران كونترا الشهيرة كان رئيسا للرابطة. عملت الرابطة على تعزيز وزنها السياسى بحيث تكون بمثابة صانع الملوك التى تحرك السياسة من وراء الستار وتضع الرجال من اختيارها فى المناصب التى تخدم أغراضها ورؤيتها السياسية. ووضعت الرابطة إطارا تنظيميا ومؤسسيا لتحقيق أهدافها فشكلت معهد الحركة التشريعية Institute for Legislative Action – ILA ليكون رواقها Lobby فى الكونجرس والسينيت، وصندوق النصر السياسى Political Victory Fund (PVF) لدعم وتأكيد فوز المرشحين الذين تدعمهم فى الانتخابات.
• • •
إن خطاب رابطة البنادق الوطنية يداعب الخيال المريض، فيصور لصاحبه أنه بطل لا يقهر من خلال بندقيته التى أتاحت له قتل أيل مهيب تكلل رأسه بقرون متشابكة رصده من خلال منظار تلسكوبى مركب على ماسورة بندقيته بعيدة المدى دون أن يكون للمسكين أى فرصة للنجاة، ثم يحمل رأسه وقرونه ليضعها على الحائط فوق المدفأة ليتباهى ببطولته. نفس المشاعر التى صورت للصبى البطولة لأنه قتل مجموعة من الأطفال الصغار عديمى الحيلة.
لو حسبنا عدد مَن أراقت رابطة البنادق الوطنية دماءهم وأرهقت أرواحهم لوجدناهم لا يقلون، إن لم يزيدوا، عن ضحايا المنظمات التى توصفها الولايات المتحدة بالإرهاب وتضعها فى قوائم الملاحقة.
ولأن الشر يتلازم دائما مع تبلد الإحساس، فلم تجد الرابطة غضاضة فى عقد مؤتمرها السنوى بعد أربعة أيام من الحادث فى ولاية تكساس التى وقعت فيها المذبحة فى تجمع حافل حضره الرئيس السابق دونالد ترامب الذى طلع إلى المنصة راقصا متبادلا الطرائف والنكات مع الحضور قبل أن يرمى كلمته.
الدماء تلطخ أيادى أعضاء هذه الرابطة الذين يمثلون فعلا زبانية الشر.