تمثل معركة «سيف القدس» فى أواسط شهر مايو 2021 والتى قامت خلالها المقاومة الفلسطينية بدكّ مدينة تل أبيب، المركز السياسى والاقتصادى الأبرز فى إسرائيل، وغيرها من المواقع ذات الأهمية الاستراتيجية الفائقة، وأجبرت الملايين على الاختباء فى الملاجئ؛ نقطة فاصلة فى مسار الصراع. فقد تغلبت الصواريخ الفلسطينية (التى حلت محل الحجارة) على سلاح الجو الإسرائيلى الذى لم يجد أهدافا له سوى فى مساكن مواطنى غزة الباسلة ومواقع البنية العمرانية فيها. ولأول مرة تنصهر مكونات الشعب الفلسطينى البطل فى بوتقة واحدة تجمع «الداخل» و«الضفة» و«غزة» و«فلسطينيى الشتات»، فى جولة فاصلة من معركة التحرر الوطني ــ القومى ضد الاستعمار الاستيطانى الصهيونى لفلسطين التاريخية. وقد جرت المعركة من جانب إسرائيل كتجربة أولى بعد أن عرفت نفسها ــ عام 2018 ــ باعتبارها (الدولة القومية للشعب اليهودي)، كجوهر لسياسة «الإنكار» Denial وفى كلمة أخرى: عدم الاعتراف؛ عدم الاعتراف بالواقع وبالحقيقة فى آن معا.
وقد جرى ذلك ليس فقط كتعبير عن سياسة إسرائيلية معينة ولكن عن عقيدة، أو أيديولوجيا كاملة، هى الأيديولوجية الصهيونية، ذات الطابع «الشعارى» ولكن العنصرى الأكيد، والذى يحول إسرائيل عمليا إلى مزيج من (دولة احتلال استيطاني) و(دولة فصل وتمييز عنصري) ــ أبارتايد، وكيان عدوانى يمثل خطرا داهما على المحيط العربى اللصيق. ومثار للعجب العجاب أن يزداد ما يسمّى «اليمين الصهيونى» الحاكم تشبثا بحبل التحدّى لضرورة الاعتراف. فكيف تبدأ القصة؟
إنها قصة إسرائيل، تلك التى تحول مشروعها للاستعمار الاستيطانى الصهيونى لفلسطين، إلى أيديولوجيا. أخذ يحدث ذلك منذ البدء، عام 1897 من خلال «مؤتمر بازل» ثم بإقامة الكيان عام 1948، ثم ترجمت الأيديولوجيا بالتشريع القانونى من خلال ما يسمّى (قانون القومية) ليل 17 يوليو وصبيحة 18 يوليو 2018.
يتأكد ذلك من مطالعة ذلك القانون الذى جرى إقراره كأحد القوانين الأساسية (أى الدستورية) والذى نقتطف منه بعضا (حسب ترجمة المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات فى «تقييم حالة» بتاريخ 18ــ7ــ2018).
يقع البند الأول تحت عنوان «مبادئ أساسية» ويتضمن الفقرات التالية:
أــ أرض إسرائيل هى الوطن التاريخى للشعب اليهودى التى قامت بها دولة إسرائيل.
ب ــ دولة إسرائيل هى الدولة القومية للشعب اليهودى التى يحقق فيها حقه الطبيعى والثقافى والدينى والتاريخى فى تقرير المصير. (لاحظ كلمة «الدينى»، هنا حيث تعرف إسرائيل نفسها كدولة ــ أمة تعريفا دينيا.
جــ تقتصر ممارسة حق تقرير المصير قوميا فى دولة إسرائيل على الشعب اليهودى (ولاحظ هنا الاستبعاد التام للعرب الفلسطينيين فى الداخل من دائرة حق تقرير المصير القومي). وفى البند الثالث أن «القدس الكاملة الموحدة هى عاصمة إسرائيل». وينص البند الرابع على أن العبرية هى لغة الدولة (وبذلك ألغى تعريفات قانونية سابقة للغة العربية باعتبارها لغة رسمية ثانية بعد العبرية). وينص البند السابع على أن (ترى الدولة فى تطوير الاستيطان اليهودى قيمة قومية، وستعمل على تشجيع بنائها وترسيخها).
***
والحق أنه بعد اتفاق أوسلو 1993، تنامى الوعى الوطني ــ القومى لدى الشعب الفلسطينى الواقع فى أسر الاحتلال منذ 1948، وهو الاتفاق القاضى بإقامة سلطة وطنية فلسطينية على الأرض المحتلة بعد 1967 (الضفة الغربية وغزة). وتنامى الوعى مرات أخرى، على إثر «الانتفاضة الأولى» – انتفاضة الحجارة ــ لعام 1988، ثم فى سياق «الانتفاضة الثانية» ــ للأقصى والاستقلال ــ منذ 2001 حتى 2004، وما تلاها.
وفى ظل هذا الواقع الذى تجسد على وقع الانتفاضة الثانية، ومن بعدها بنحو عشر سنين، بدأت الدوائر الأشّد «تأدلجا» فى المعسكر الصهيونى تطرح، وخاصة منذ 2013، مشروعا لتحويل صورة الأيديولوجيا ــ الوهم إلى قانون مشّرع ذاتيا، يضعه يهود إسرائيل لأنفسهم، لحماية (الذات) من (الآخر ــ العدوّ). إنه مشروع القانون الذى طرح على برلمان (الدولة) ليؤكد اليهود فى إسرائيل لأنفسهم هوية اصطنعتها الأيديولوجيا، أنهم يهود ويظلون كذلك، وكذا دولتهم: دولة يهودية بالذات، مع استبعاد كلمة «ديموقراطية» من تعريفها.
ولم يأت التشريع من فراغ، وكذلك التغوّل الأيديولوجى الراهن.
فلقد نشأ (الكيان) كما هو معروف، وفق ما أشرنا سابقا، كتجسيد للفكرة الصهيونية منذ بلورتها فى أعمال (المؤتمر اليهودى العالمي) بدورته الأولى المنعقدة بمدينة بال السويسرية عام 1897 بقيادة هرتزل، وذلك كتَمظْهُر حديث نسبيا للفكرة «اليهودية السياسية» الرافضة دوْما لفكرة الاندماج الأوروبى والساعية إلى «الانسلاخ» (انطلاقا من الانعزال «الجيتوى»). وقد وقع ذلك عبر البحث عن «ملاذ وطنى» للأقليات اليهودية، يكون خارج بلدانها الأصلية الواقعة فى القارة الأوروبية بالذات، شرقا وغربا، (وليكن ذلك فى أوغندا أو الأرجنتين أو فلسطين أو غيرها) هروبا من (الاضطهاد). وتفاعلت تلك الفكرة ببذورها وجذورها مع تطورات الأحداث فى أوروبا على امتداد القرن التاسع عشر، على نحو ما تم تصويره بمناسبة الحادثة المعروفة بقضية «دريفوس» بفرنسا، لتصوغ فكرة «الانسلاخ» للتخلص من ذلك (الاضطهاد).
ورغم أنه جرت محاولات من أجل نقد ونقض الفكرة اليهودية السياسية، كما ظهر، على سبيل المثال، فى كتيب (المسألة اليهودية) لكارل ماركس، والمنشور عام 1843، إلا أن الحركة اليهودية السياسية وجدت بغيتها بعد ذلك فى التحالف مع الحركة الاستعمارية المتوجهة إلى المشرق العربى بالذات، وخاصة مع بريطانيا بدءا من «وعد بلفور» مرورا بفترة الانتداب البريطانى على فلسطين حتى النكبة 1948.
هذه إذن هى الصهيونية، الفكرة القائلة بإقامة كيان سياسى خاص لليهود بعيدا عن أوطانهم التى عاشوا وترعرعوا فيها عبر آلاف السنين. ومن هم اليهود..؟ إنهم أتباع الديانة اليهودية من مختلف الأمم والأوطان، رغم اختلاف قومياتهم وانتماءاتهم الاجتماعية. ومن هم أتباع الديانة اليهودية..؟ إنهم أولئك الذين اعتنقوا تلك الديانة، على اختلاف أصولهم وأعراقهم، وبمختلف الطرق، ولو لمجرد المسايرة أو الخوف أو الطمع. المهم أن الصهيونية هى محاولة لخلق رابطة ولاء سياسى مشترك بين يهود الأمم المختلفة، وجمعهم معا تحت لواء (دولة) لم يعيشوا فيها. والفكرة الكامنة عندهم، وراء ذلك، أن اليهود يشكلون جماعة اجتماعية متجانسة على امتداد الأركان الأربعة للمعمورة، وأن لهم أصولا (عرقية) أو (إثنية) تجمعهم، أى أصل مشترك، قائم على نوع من «رابطة الدم» ــ أو «النسب العضوى». لذلك أصدر الكيان الصهيونى فور قيامه (قانون العودة) الذى ينص على حق كل (يهودي) من أمم وقوميات العالم المختلفة على (اقتحام) فلسطين، بزعم (العودة) إليها، وكأن هذا اليهودي ــ أو سلفه ــ كان مقيما فيها، ثم غاب، ليعود..! وعرّفوا اليهودى بمن كانت أمه يهودية ــ تأسيسا على رمزية (الأصل الدموي) الذى تشير إليه رابطة الأمومة.
***
هكذا إذن نشأ الكيان الصهيونى، انطلاقا من عقيدة سياسية قائمة على اعتبار اليهود بمثابة جماعة (قومية) أو (إثنية) منفصلة عن الأمم التى ينتسبون إليها تاريخيا وحضاريا. وهذه هى (اليهودية السياسية) التى تزعم أن اليهودية قومية، لا مجرد ديانة..! وإن كانت لا تستبعد الالتحاف بالدين، كما ظهر من نص الفقرة ج من البند الأول من «قانون القومية» العنصرى ذاك.
قومية عنصرية إذن.. وهى عنصرية متعالية على العرب والشعب الفلسطينى، تجيز طردهم والقضاء عليهم، بل واستئصالهم عضويا. وفى مرحلة ما بعد قيام (الدولة)، كانت الحركة الصهيونية الممثلة فى التجمعات الصهيونية فى أوروبا وأمريكا، هى الراعية لمشروع (الدولة) الجديدة، وهى ذات اليد العليا إزاءها، بحكم أنها التى أنشأتها أصلا، من رحم المؤسسات التى أقامتها، وفى مقدمتها الوكالة اليهودية. وظل الوضع كذلك حتى 1967 تقريبا. وبعدها انتقل (الكيان) إلى مرحلة جديدة يمكن أن تسمّى «الأسرلة» فى مواجهة «فلسطينيى الداخل»، أى العمل على بناء رابطة انتماء وولاء متأصلة لهذه (الدولة) ذات (الشرعية!).
خلال السنوات العشرة الأخيرة تفتق ذهن عتاة الصهاينة عن التخلى عن وهم (أسرلة) الفلسطينيين/ات فى الداخل، بعد أن ارتفعت دعوة هؤلاء الفلسطينيين إلى ضرورة الاعتراف بهم كجماعة قومية (أو أقلية قومية فى أسوأ الظروف)، أى أن ينتزعوا الاعتراف بهويتهم القومية العربية، والوطنية الفلسطينية. يريد عتاة الصهاينة لو أنهم أخذوا كل شيء.. يودّون، بعد التخلص تشريعيا من عبء الفلسطينيين/ات فى الداخل كجماعة قومية، لو يأخذون المستوطنات (اليهودية.!) فى الضفة الغربية، وما يتم (تهويده) فى القدس وجبل المعبد، وإلى جانبه ما يسمى «الضم» أراضى غور الأردن على الأقل. وكل ذلك بعد فشل ما كانوا يطلقون عليه «الخيار الأردنى»، قبل عقود، أى «الإبعاد» أو «الترانسفير».
وفى جميع الأحوال، أدى تغول اليمين الصهيونى المُتأدْلِج والمشرَّع إلى استبعاد خيار الدولتين، الذى طالما تحدث به المتحدثون، وحلّ شعار «السلام مقابل السلام» محل «الأرض مقابل السلام». وذلك مع ابتعاد حل «الدولة الواحدة ثنائية القومية»، ثم استحالته صهيونيا بفعل إقرار «قانون القومية». من ثم أصبح المتاح إسرائيليا للفلسطينيين/ات هو فتات كيان إدارى هزيل فى الضفة الغربية، مع تكريس الموقع الأدنى للفلسطينيين/ات فى الداخل، إلى جانب خنق قطاع غزة حتى استسلام المقاومة إلى الرمق الأخير. فلم يبق أمام الحركة الوطنية الفلسطينية المقاوِمة سوى التسلح بالإرادة الحديدية وبالصواريخ وتهديد العمق الإسرائيلى حتى تل أبيب وديمونة وغيرهما عديد. وهذا ما جرى فى «سيف القدس» الأخير. وفى المقابل يزداد اليمين الصهيونى تشبثا بالمستحيل جريا وراء خيار «الإنكار» ثم إلباسه لباسا أيديولوجيا قشيبا، ولكن هيهات..!
فماذا نحن فاعلون..؟