الحج طيب لا يقبل إلا الطيب! - أكرم السيسى - بوابة الشروق
الجمعة 5 يوليه 2024 4:27 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحج طيب لا يقبل إلا الطيب!

نشر فى : الثلاثاء 2 يوليه 2024 - 6:35 م | آخر تحديث : الثلاثاء 2 يوليه 2024 - 6:35 م

رغم أن أيام الحج لهذا العام قد ولّت، إلا أننا ما زلنا فى شهر ذى الحجة، ومن حقنا أن نتحدث عن الفريضة التى تحِل فيه، خاصة أن الحج هذا العام مرَّ بأحداث مؤسفة عكرت علينا صفاءه وبهاءه، فقد وقعت فيه أعداد كبيرة من الوفيات رغم الاستعدادات الهائلة التى قامت بها المملكة العربية السعودية لتنظيم هذا الموسم مثل كل المواسم السابقة، ولكن مخالفات بعض الحجاج رغبة منهم فى أداء الفريضة بأى شكل وبأى طريقة – صحيحة أو خاطئة - قد حالت دون تحقيق الأهداف الروحانية الجميلة المنتظرة من أداء هذه الفريضة، ولعل أهمها "البِر"، أى الصِّدق والطَّاعة والخير والفضل!

من المعروف أن كل الفرائض والشعائر الدينية فى الدين الإسلامى، وكذلك فى الديانات السماوية الأخرى، طيبة لا تقبل إلا الطيب، فالأركان الخمسة كلها وبلا استثناء لا تقبل الشبهات أو الانحرافات، وإلا سقطت مفاهيمها التى تسعى لتعليم الإنسان كل ما هو صحيح وسليم ونقى، لأن الله لا يأمر إلا بالاستقامة فى كل شىء، والاستقامة لا تقبل التجزئة، والله سبحانه وتعالى كامل لا يقبل التجزئة أو التشوهات فى أوامره.

فمن المؤكد أن الذين ينافقون الله بعدم المصداقية بالاعتراف بألوهيته أو بوحدانيته هم فى الدرك الأسفل من النار، لأن النفاق أسوأ من الكفر؛ والذين يكذبون ويسرقون ويتحايلون ويضللون أنفسهم والآخرين لا تُقبل منهم صلاة، لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ والذين يغتابون ويتنمرون ويؤذون الآخرين لا يُقبل منهم صيام، لأن الصيام تقرب لله فلا يتقرب الإنسان لربه بالذنوب والمعاصى؛ والذين يزكون من أموال غير طيبة ومكتسبة من حرام لا تُقبَل منهم زكاة، لأن الزكاة لا تُطهر حرامًا، وإنما تنمى المال الحلال؛ والحج  لمن استطاع إليه سبيلًا، سواء بالمال أو الصحة أو باحترام القوانين المنظمة له، لا يُقام بالمعاصى، فلا جدال ولا فسوق فيه، والفسوق هو الخروج عن طريق الحق والصلاح؛ فكسر القوانين التى تنظم أداء الفريضة، واستئثار الأغنياء وأصحاب النفوذ بحق الحج لأنفسهم دون التفكير فى إخوانهم وأخواتهم المسلمين والمسلمات الآخرين والأخريات هو أنانية منهم، وظلم لمن لم يؤد الفريضة!

• • •

الحج إذن فريضة قوامها الفضل والخير، ولا يقوم بها إلا القادر ماليًا وجسمانيًا، فمن لا يتوفر لديه المال ولا يقدر على مشقته صحيًا فقد أعفاه الله، وهذه رحمة منه سبحانه وتعالى، فهو يعلم أن الكثير من المسلمين لن تكون لديهم المقدرة للذهاب إلى بيت الله الحرام؛ وإذا لقِى المسلم ربه، ولم تتح له الظروف بأن يؤدى الفريضة لعدم استطاعته سقطت عنه نهائيًا، ولا فائدة لها إذا قام بها بعد مماته أحد من أبنائه أو غيرهم، فالأولى للمتوفى أن يُتصدق عليه، فالصدقة من أعظم الأعمال التى تُمنح للموتى، وما أكثر الحاجة إليها فى هذا التوقيت فى بلادنا، فكم الفقراء والمساكين والمرضى، ومشروعات البر كبناء المدارس والمستشفيات فى حاجة للتبرعات والصدقات بلا حدود!

فضلًا عن ذلك، ومن وجهة نظرنا، وهو الأهم، أنه لا يجوز للمسلم أن يؤدى الحج إلا مرة واحدة فى العمر، هكذا فعل النبى عليه الصلاة والسلام، ولم يُشِر بتكرارها فى أى مناسبة، وسُميت حُجته بـ"حجة الوداع" التى ألقى فيها خلاصة رسالته، ولكن المبتدعين والمغالين يعتقدون أن فى كل حجة يعود المرء إلى حالته الأولى – أى كما ولدته أمه، خاليًا من الذنوب - وبهذا حولوا هذه الفريضة إلى "صكوك غفران"، فمنهم من حرص على أدائها أكثر من مرة، ومنهم من أقامها كل عام، غير عابئين بتوابع هذا التكرار غير المطلوب على إخوانهم المسلمين الذين لم تَسمح لهم الظروف المادية خاصة بأدائها، فالمعددون لهذه الفريضة لا يعلمون أنهم يأخذون حق غيرهم، ويُضيعون على غيرهم فرصة أداء الفريضة، وفى ذلك أنانية وإثم لا شك فيه، لأن المكان لا يستطيع استضافة كل مُسلمى العالم، وعليه ترتفع التكاليف فتصبح للأغنياء والانتهازيين فقط، فنحن على يقين أن الحُجاج الذين كرروا الفريضة – دون لزوم - نسبتهم ربما تفوق – فى أقل التقديرات - الخمسين فى المائة من مجموع الحجاج كل عام، ولو أن هؤلاء اكتفوا بمرة واحدة، كما فعل نبيهم عليه الصلاة والسلام، لقلت التكاليف إلى النصف، وبذلك يستطيع عدد كبير من المسلمين أداء الفريضة، ولما حاولوا التحايل على القوانين المنظمة الصادرة من الدولة المستضيفة، وخففوا الأعباء عليها!

• • •

من نتائج هذه الأنانية والمغالاة فى المفاهيم المغلوطة بأن الله سيغفر فى كل حجة الذنوب – وكأنها "صكوك غفران" كما سبق القول - أن قام هذا العام عدد كبير من المصريين من غير القادرين على الحج بالتحايل على النُظم التى أرستها المملكة السعودية، وأهمها "لا حج بدون تصريح"، وهذا لمعرفة عدد الحجاج لضمان سلامتهم، وتوفير احتياجاتهم لفترة قد تصل للبعض لشهر كامل، وذلك لأن كل حاج على أرض الحرمين هو مسئولية الحكومة السعودية (حياته ومأكله ومسكنه وعلاجه...)، فقد قام راغبو الحج بمساعدة بعض شركات السياحة التى لا يهمها سوى جمع الأموال على حساب أرواح الناس بالحصول على تأشيرات زيارة للمملكة، لا تسمح لهم بدخول مكة المكرمة، ولم توفر لهم سكنا ولا مواصلات ولا طعاما، فتركوهم يتسولون الطعام، وينامون فى العراء، ويمشون فى طرق غير مؤهلة للهروب من السلطات المنظمة للحج!

كان من سوء الحظ، أن أيام الحج جاءت مع موجة شديدة الحرارة، فوقع عدد كبير منهم موتى فى أثناء تنقلهم بين المناسك، فهم خالفوا القوانين، وضللوا رجال الشرطة، وتحايلوا على النظم، فلم يصبهم خير من هذه الرحلة، فهؤلاء صدق فيهم قوله تعالى: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْنًا" (الكهف: 103-105)!

من ناحية أخرى، نَسِى هؤلاء الناس المخالفون للقوانين قول الله سبحانه وتعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (البقرة:189)، فبيوت الله أولى أن تؤتى من أبوابها، والآية تفيد أن الحج بدون تصريح أو بالتحايل وبالتضليل هو "غير مبرور"، لأن فيه غشا وإتيانا للبيوت من ظهورها!

وأما عن شركات السياحة التى نظمت هذه الرحلات ليحققوا مكاسب من حرام، وأقنعت الناس بأنهم سيحجون بربع التكلفة، وربما بأقل من ذلك بكثير، وكذلك كل من ساعدوهم بالفكرة أو بالعمل أو بالسعى أو بالتشجيع، فيصدق فيهم قوله تعالى: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْنًا" (الكهف: 103-105)!

فهذا جزاء كل من يكذب ويغش ويخالف القانون، فالحج طيب لا يقبل إلا الطيب!

والله أعلم!

أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات