قد يكون من المناسب فى ظل هذه الأجواء التى تتعرض فيها الدولة المصرية لغارات إعلامية وسياسية من كل صوب وحدب ــ هدفها الأساسى جس نبض مصر فى التماسك والتعامل مع التحديات والمخاطر التى تواجهها فى محيطها العربى والإقليمى ــ أن يعاد قراءة واستشراف حسابات مصر الحالية والمحتملة تجاه الاقليم؛ خاصة وأن المطالبة ببناء نمط جديد للعلاقات المصرية الإقليمية ليس ترفا، وإنما توجها يجب العمل عليه والتخطيط له جيدا وبرؤية أكثر موضوعية، بدلا من البقاء فى دائرة محددة ليس تجاه إسرائيل فحسب، إنما أيضا تجاه تركيا وايران..
وتتطلب عملية صنع السياسة الخارجية المصرية تغيرا فى الرؤية والمنهج إزاء الإقليم، إذ لا يمكن لمصر أن تبقى على نمط تحالفاتها بهذه الصورة فى ظل صراع الأدوار الجارى فى المنطقة بين إسرائيل وتركيا وايران ووقوف مصر فى موقعها وهى التى تملك من مقومات الدور الكثير. ومن ثم يتطلب الأمر ضرورة مراجعة أسس العلاقات مع ايران وفتح آفاق مستقبلية لبدء علاقات جديدة تتجاوز المخاوف من المد الشيعى أو المشروع الإيرانى فى المنطقة. ويمكن أن تكون البداية عبر مسارات غير رسمية تمهد الأجواء لعلاقات أوضح تخدم مسارات الحركة المصرية فى الإقليم بدلا من مراعاة ضوابط ومعايير لم يعد لها وجود حقيقى على الأرض؛ خاصة أن العلاقات مع ايران يمكن أن توظف لحسابات أكثر واقعية ونفعية لمصر فى المدى المنظور. هذا مع ضرورة مراعاة الارتباطات المصرية فى الخليج، حيث لا يمكن أن تستمر القيود الخليجية على أى حركة مصرية فى هذا الملف تحديدا، وليس مطلوبا من مصر أن تمضى خلاف ركاب من يرون ايران الخطر الأكبر وليس إسرائيل، وهو ما يدفع بعض هذه الدول للتحرك عبر قنوات سرية لإيجاد مسارات جديدة، ربما لفتح الأبواب المواربة مع إسرائيل لمواجهة الخطر الإيرانى المحتمل. والسؤال أين مصر من هذا؟ وما هى المصالح الجوهرية لمصر فى هذا التطور الجارى إزاء ايران؟ والإجابة ترتبط بضرورة رصد وتقييم العلاقات المصرية ــ الإيرانية فى محتواها الجديد، إذ إن هناك مكاسب حقيقية ربما ستعود من التحرك المصرى كخطوة لاستئناف العلاقات بعد اختبار الجانب الإيرانى عبر إجراءات بناء ثقة تتحرك من خلالها مصر.
***
كما ستظل العلاقات مع تركيا مرتهنة بالنسق العقيدى والأيديولوجى لتوجهات الرئيس رجب أردوغان وحزب العدالة والتنمية تجاه مصر. فسيستمر العداء السياسى قائما، ولن تسعى تركيا لتحسين علاقاتها مع مصر بصورة جدية، إلا إذا دخلت القاهرة على خط التحالفات الجارية فى الإقليم؛ ومنها التحالف مع روسيا وايران خاصة مع حجم التحولات الهيكلية الجارية فى المنطقة؛ حيث يعاد فك وتركيب التحالفات السياسية الراهنة على قدم وساق. ولعل التحركات التركية الأخيرة إزاء ايران وروسيا يؤكد ذلك، حيث ستكون المسألة السورية محل اختبار للجميع فى المرحلة المقبلة. ومن ثم فإن المشكلة لن تكون فى تغيير الخطاب السياسى للرئيس أردوغان أو القبول بالشروط التى أعلنتها مصادر رسمية مصرية، وإنما فى دخول القاهرة كطرف فاعل ومؤثر فى الملفات العربية المفتوحة واتباع سياسة النفس الطويل، والاشتباك الدبلوماسى والسياسى مع كل الأطراف المعنية. فعلى سبيل المثال يمكن لمصر أن تؤدى دورا مباشرا فى تطورات المسألة اليمنية، وقد كشف الحضور المصرى فى هذا الملف، ما يمكن أن ينقل رسائل لأطراف الصراع الممتد. ويمكن أن يوظف أيضا للتوجهات والمصالح المصرية، وليس لحسابات من طالبوا فى مراحل معينة بترجمة عبارة الرئيس السيسى «مسافة السكة» للتدخل فى حرب اليمن، أو آخرون طالبوا عبر بعض مستشاريهم بعدم ترشح الرئيس السيسى لولاية جديدة فى 2018.
كذلك فى ملف التطورات السورية والتى قطعت القاهرة دورا سابقا لم يكتمل فى جمع الأطياف السورية عبر المجلس المصرى للشئون الخارجية، ولم يتم استثماره بعد، وقد يرى البعض أن الحركة المصرية مقيدة والصراع السورى معقد ومتشابك، وأن على مصر الاكتفاء بدور محدد فى نطاقها، والاهتمام أولا بأولويات الأمن القومى المصرى والتحديات المباشرة على مصر من الجبهة الليبية، أو قطاع غزة أو تهديدات الجنوب. وهؤلاء ينظرون تحت أقدامهم، ولا يريدون لمصر التحرك قدما لأداء دور حقيقى خارج دائرة ضيقة من الخيارات والبدائل، ووفقا لحسابات النفقة – التكلفة – العائد.
***
إن التحرك المصرى إزاء إسرائيل يتطلب فى المرحلة المقبلة، عدم الارتكان لطبيعة العلاقات الراهنة أمنيا وسياسيا، بل يجب توظيف هذه العلاقات واستثمارها فى جملة من الملفات بعيدا عن الأيديولوجيات العتيقة التى لم يعد لها وجود فى نمط العلاقات ومسارها فى العلاقات الإقليمية والدولية. وليس صحيحا أن مصر هى الطرف الأضعف فى نمط العلاقات الثنائية، كما يتوهم البعض مع إسرائيل، وأن القاهرة تريد توطيد العلاقات من أجل تعزيز التعاون الأمنى والاستخباراتى، والحصول على دعم إسرائيلى كامل فى استمرار العمليات العسكرية فى سيناء، وتخفيف الضغوط الراهنة على مصر دوليا فى ملف حقوق الإنسان والديمقراطية، أو محاولة مصر استعادة دورها الإقليمى فى عملية السلام أو مساعدتها فى الملف المائى مع دول حوض النيل خاصة مع اثيوبيا. الواقع أن مصر لديها من الإمكانيات والحسابات السياسية والاستراتيجية الكثير، وهو ما يمكنها من منع أية حروب جديدة فى قطاع غزة، كما يؤهلها لضبط الأوضاع داخل الإقليم لطبيعة علاقاتها المباشرة بكل الأطراف سواء كان عربيا أو اسرائيليا أو إقليميا.
ويمكن للقاهرة أن تعيد ترتيب حساباتها مع إسرائيل فى اطار ملف مقابل ملف واشكالية مقابل إشكالية. وهو ما يمكن أن يفتح ملف المقايضات السياسية الكبرى بين مصر وإسرائيل، فى منطقة تشهد فى الوقت الراهن تحولات هيكلية حقيقية يجب أن يكون لمصر دورا فاعلا ومباشرا فيها كصانعة للتطورات السياسية والاستراتيجية فى كل قضايا الاقليم. هكذا ننظر لطبيعة الدور المصرى الحقيقى فى المنطقة، وليست متلقية أو رد فعل لمن يريد أن يحصر خيارات مصر ويهمش حركتها، ليس تجاه ايران أو تركيا أو إسرائيل، وإنما أيضا تجاه دول صغرى وعابرة فى الإقليم تريد أن ترسم مستقبل المنطقة وفقا لحساباتها وهى فى الأصل سياسات دول كبرى تخطط وتحدد وتوجه وأدواتها معروفة ومعلومة.
***
والبديل الذى يطرحه عدد من كتابنا الكبار المنتمين لفلسفة معروفة، والمتمثل فى الارتكان للراحة والجلوس فى مواقع المنظرين واطلاق الاحكام القاطعة فى خروج مصر واعتزالها من المشهد السياسى نتيجة معاهدة ــ حيث يسعى هذا الفريق لخلط الأوراق عن عمد وربط كل ما يجرى فى الأراضى المحتلة بمعاهدة السلام من مستوطنات تبنى، وإرهاب يمارس، ورفض لكل الدعاوى بإقامة الدولة الفلسطينية، وفى ظل الاسترشاد بكتابات اسرائيلية، سطحية وموجهة تتحدث عن كيان الدولة العبرية ــ وأن مصر تخلت عن الفلسطينيين هو أمر خاطئ فى ظل دعم مصرى مستمر حتى اليوم لمفاوضات طويلة شاركنا فى تفاصيلها إلى أن أصبح لهم سلطة ودولة معترف بها دوليا فى الأمم المتحدة، وفى وقت ظل البعض يراهن على الفشل والاحباط، ومسترشدا بتقارير منظمات اسرائيلية تافهة عن الأوضاع الفلسطينية.
إن مصر فى هذا التوقيت مطالبة بأن تتجاوز فكر القابعين فى السراديب السوداء المغلقة، وأن تراجع جملة من السياسات الخارجية الراهنة ليس تجاه اسرائيل فقط والتى نسلم بأنها ــ ستبقى الخطر الأكبر فى المنطقة ــ إنما تجاه المنظومة الإقليمية بأكملها، وأن تخرج للعالم بخطاب سياسى جديد. وسيحتاج ذلك إلى مراجعات سياسية حقيقية وفقا للحسابات والتقييمات السياسية والاستراتيجية الوطنية، على أن تطرح دورا جديدا فى دوائر الحركة المصرية المباشرة، وغير المباشرة خاصة وأن لمصر كثيرا من المقومات المتعارف عليها التى يمكن أن تتحرك من خلالها فى الفترة المقبلة.
***
فى عملية السلام: مصر قادرة على أن تطرح مبادرة مصرية منفردة لإحياء عملية السلام فى الشرق الأوسط فى الفترة المقبلة، بالتنسيق مع الجانب الفرنسى قبل اجراء الانتخابات الأمريكية المقبلة، وعدم الاستناد على مبادرتى فرنسا أو المبادرة العربية فقط.
وفى سوريا: يمكن لمصر أن تجدد تحركاتها فى هذا الملف، وأن تدعو الأطياف السورية لاستئناف اتصالاتها السياسية، على أن يتم ذلك بالتنسيق مع الجانبين الروسى والصينى والفرنسى فى مجلس الأمن وخارجه.
وفى اليمن: مصر قادرة على استضافة مؤتمر المصالحة ليضم كل الأطراف اليمنية المختلفة خاصة، وأن المفاوضات الأخيرة فى الكويت وخارجها، أكدت الحاجة إلى آليات عدة جديدة وعودة التنسيق بين الجامعة العربية ودور المبعوث الأممى. وهو ما يمكن أن يتكرر مع الحالة الليبية فى حال التواصل مع جميع الأطراف المختلفة، وعدم الاعتماد فقط على دعم الجنرال حفتر، وفى ظل مخطط مصرى لبناء جيش وطنى ليبى وتحقيق التوافق الوطنى.
***
إن ما أشرنا إليه يأتى على سبيل المثال وليس الحصر فى إطار حركة مصرية مباشرة تعيد تدوير الدور المصرى بأكمله فى المنطقة وتوظيفه لحسابات وطنية مصرية وإسقاط مقولة أن مصر الداخل منهكة وعاجزة ومقيدة ومكبلة للقيام بدور فاعل اقليميا، وأن مصر غير قادرة على الحركة فى محيطها المرتبك، وسيبقى التأكيد على ضرورة تحقيق نجاحات وإنجازات حقيقية فى الداخل تدفع إلى ممارسة دور إقليمى بارز ومباشر لمواجهة كل التطورات الراهنة والمحتملة فى الإقليم.