نظام دولى مضطرب فاقد القيادة والريادة - نبيل فهمي - بوابة الشروق
الأحد 15 سبتمبر 2024 11:52 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نظام دولى مضطرب فاقد القيادة والريادة

نشر فى : الإثنين 2 سبتمبر 2024 - 8:00 م | آخر تحديث : الإثنين 2 سبتمبر 2024 - 8:00 م

فى كتاباتى منذ أسابيع فى هذا المكان تناولت حالة التوهان واللا فهم التى تسود الساحة السياسية الدولية، عاقدا العزم على متابعة تلك الأفكار مباشرة بأخرى حول الشرق الأوسط، وما زلت أنوى التطرق إلى مفاهيم وأوضاع الشرق الأوسط، وإنما جذبتنى الأحداث الى قطاع غزة والمبادرة الثلاثية، وقررت التركيز اليوم على تناول قضية محددة ومهمة ترتبط بالوضع الدولى، ألا وهى الريادة والقيادة.

قمت فى بداية يوليو بزيارة بكين للاشتراك فى «المؤتمر الدولى للسلام» تحت عنوان «التعاون والعمل الجماعى»، نظمته جامعة تشينجاو Tsinghua المتميزة علميًا وفكريًا، وكانت نسخة ٢٠٢٤ هى الدورة الخامسة عشرة للمؤتمر، وبحضور عدد كبير من الممارسين والسياسيين الحاليين والسابقين، من ضمنهم دى فيلبان، وهو تاياما، رؤساء الوزراء السابقون لفرنسا واليابان، ووزراء خارجية سابقون من أستراليا والهند وبحضورى كوزير خارجية مصر الأسبق، وافتتح المؤتمر نائب الرئيس الصين الشعبية، وشارك فيه عدد كبير من المحللين والباحثين فى العلاقات الدولية.

وكان قد طلب منى المشاركة بأفكار وآراء بمنظور مستقبلى كمتحدث فى جلستين، إحداهما حول الأوضاع بالشرق الأوسط فى ضوء أحداث غزة والترتيبات المحتملة مع وقف إطلاق النار، والجلسة الثانية بطرح منظور من دول الجنوب - النامية أو غير المنحازة سابقًا - حول النظام الدولى المعاصر، والذى ترنح بين القطبية والقطب الأوحد والأقطاب المتعددة ووضع خال من الأقطاب الحاسمة القادرة على توجيه دفة الأمور الدولية نحو الاستقرار.

وخرجت من الجلسات التى تحدثت فيها، ومن متابعتى لغيرها كمشارك، أن الاضطراب الدولى يولد ويغذى حماسا شديد للتفسير والتنظير للأمن، ولكل مساهم مساحة واسعة للإبداع فى ذلك دون قلق المحاسبة، باعتبار أن الاضطراب العام واللا فهم لا يرجح منظورًا على آخر، وأن كل الاحتمالات والسيناريوهات ممكنة ومتاحة، ولا توجد دلائل أو مؤشرات واضحة ترجح طرحًا محددًا.

ولا أخفى أن رد فعلى الأول لما تابعته كان أنانيًا وشخصيًا، حيث سعدت أن هناك العديد من الخبراء والشخصيات يشاركوننى الحيرة وعدم الوضوح فى طبيعة الوضع الدولى وتوجهاته المقبلة، فاستمعت إلى مداخلات وكلمات مهمة وثرية وغاية فى اللباقة، دون أن أجد فى أغلبها نظرة مستقبلية محددة مرجحة توجهًا عن الآخر، وليس من المبالغة او الإجحاف القول إن المشاركين أمتعونا بفكرهم ولياقتهم وتنظيرهم وأفاضوا فى ذلك، وقد يكون ذلك تجنبًا للمجازفة بطرح رؤى وتوقعات محددة عما هو قادم وبشكل يرجح احتمالا على آخر، وهو أمر غير معتاد من هذا المستوى من الحضور، ومن بعض الشخصيات السياسية بعينها المعروف عنها الآراء الخلاقة والحضور السياسى و«كاريزما» الشخصية.

وإنما لاحظت أيضًا من الحوارات داخل الجلسات، وحتى من أداء المحاورين الذين يديرونها وجود رغبة حقيقية وشغف كبير للحصول على ردود محددة، مع اتساع القناعة السائدة أن مرحلة الاضطراب الحالية وتناقض المواقف والازدواجية فى المعايير قد أوصلتنا إلى حافة الهاوية نحو التفكك الدولى، فى الوقت الذى سادت واتسعت فيه القناعة بأن الكثير من القضايا الدولية تتطلب معالجة دولية متكاملة، ولا تتسق مع المعاملات المنفردة أو الاستقطاب العالمى، خاصة مع تنامى احتمالات الصدامات العسكرية بين الدول الكبرى أو تعدد النزاعات الإقليمية المنفلتة.

وشعرت كذلك بوجود قناعة عامة بين الحضور أن مرحلة الاضطراب واللا فهم ستستغرق وقتًا وستمتد قبل الاستقرار، وإفراز مبادئ وممارسات يتوافق حولها العالم، كإطار لتنظيم العلاقات الدولية فى حالة الصدام والحرب أو حتى فى السلم والمنافسة الطبيعية، وهو ما يرجح أن الدول والمجتمعات ستتجنب اتخاذ القرارات الاستراتيجية الجوهرية مفضلة التحركات التكتيكية غير الحاسمة، وهو ما يطيل مدة الانتقال من مرحلة الاضطراب إلى حالة من الاتزان والاستقرار فى منظومة الدولية الجديدة.

أما الملاحظة الثالثة التى خرجت بها، وقد تكون أهمها جميعًا فهى مطلب طبيعى لمرحلة اللا فهم والاضطراب، فكانت إلحاح المنظمين والمشاركين على السؤال تحديدًا عن الدول والشخصيات التى ستتحمل قيادة المرحلة الحالية إقليميًا ودوليًا، وكان السؤال بمنظور السياسة الواقعية real politics مع عدم الاكتراث بالتناقض الذى ظل سائدًا خلال العقد الأخير بين النظم الليبرالية.. والنظم المركزية أو بصياغة أعم بين الدول الديمقراطية والأوتوقراطية.

وسُئلت مرارًا فى جلسة الشرق الأوسط عن مرحلة ما بعد حرب غزة، ومن يحكم ويدير القطاع، ومن يقود الساحة الفلسطينية حماس والسلطة الفلسطينية، وبينهم هنية قبل اغتياله أم السنوار، وأبومازن والبرغوثى أو دحلان او الكدوة أو غيرهم، بل تجاوزت الأسئلة الساحة الفلسطينية إلى العالم العربى عامة، وهل الريادة للدول العربية التقليدية القديمة مصر العراق سوريا والسعودية راسخة التقاليد والخبرات أم للأحدث والأكثر شبابًا سريعة وكثيرة الحركة مثل الإمارات وقطر؟ بل تطرق الحديث حتى إلى الشخصيات المرموقة فى الجيل القادم من القيادات بالمنطقة.

نفس السؤال عن القيادات وبنفس الإلحاح وجه لى وآخرون فى الجلسة الخاصة بالنظام الدولى، مع تركيز خاص على الدول التى نراها مؤهلة من دول الجنوب للانتقال الى وضعية الريادة العالمية، حتى لو استثنينا من ذلك الاعتبار العسكرى، وطرحت أسماء بعض الدول مثل البرازيل والهند، وانصبت الكثير من ردود فعل ممثلى بعض هذه الدول وتعليقاتى الشخصية على أن الريادة فى القرن الـ21 يجب أن تكون فى الأساس ريادة سياسية وفكرية وليست مستندة إلى اعتبارات عسكرية، خاصة بعد عقود من الزمن دعينا فيها إلى نبذ استخدام القوة أو التهديد باستخدامها، وسبق أن نوه مسئولون من البرازيل أنها ستتنازل عن حق النقد على قرارات مجلس الأمن إذا انتخبت عضوًا بمجلس الأمن فى الجهود الرامية إلى تفعيل عضويته.

وطرحت علىّ شخصيًا أسئلة عدة مرات عن دول الجنوب الأخرى التى قد تقوم بأدوار ريادية مستقبلًا حتى خارج إطار مجلس الأمن، بما فى ذلك تجمعات أو زعامات شبيهة بدول عدم الانحياز السابقة، التى على رأسها عبدالناصر وتيتو ونهرو، وكان ردى وهو ما أثنى عليه سكرتير عام الخارجية الهندية السابق، إنه مع ضرورة عدم الإقلال من أهمية القدرات العسكرية مع التشديد على أن الريادة على المستوى الدولى عامة وخاصة النابعة عن دول الجنوب ستكون أساسًا بريادة فكرية وحضارية، وتناغم مضمون الرسالة والأفكار مع تطلعات الشعوب على المستوى الدولى، مع توافر القدرات والاستعداد لدى حامليها على نقلها للغير والترويج لها دوليًا فضلًا عن داخل الإقليم الصادرة منه، منوهًا بأن نجاح رسالة الدول غير منحازة فى الماضى كانت أساسًا فى تبنيها أفكارًا تتسق مع تطلعات وأمنيات الشعوب عامة دون التركيز على منطقة إقليمية بعينها.

خرجت من تلك الزيارة والمؤتمر القيم أشعر بقلق حقيقى من مستوى الاضطراب والانزعاج الدولى، سعيدًا بالتوافق العام بأن التكامل الدولى هو السبيل الأصلح والآمن للجميع رغم كل العقبات التى تقف أمام طريقه الآن، متفاجئًا بالتوافق الدولى العام حول غياب القيادات الدولية الريادية من قبل الدول الصناعية الكبرى، ومتفائلًا بأن القلق والاضطراب والانزعاج هى حوافز لتوسيع دائرة البحث والتفاعل مع دول الجنوب وقياداتها بحثًا عن قيادات فكرية وحضارية تؤمن وترجح نظريات التكامل الدولى، حتى وإن تفاوتت قوة الدول وثراؤها، وهو ما يوفر فرصة لدول الجنوب للتأثير على الأوضاع الدولية وإعادة الاتزان والانضباط لها، خاصة وبات واضحًا أن الريادة الحقيقة فى الفترة المقبلة لن تنبع من الدول الصناعية حصريًا على الأمد القصير.

نبيل فهمي وزير خارجية مصر السابق، والعميد المؤسس لكلية الشئون الدولية والسياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات