على مدى ربع القرن الأول من عمر الدولة العبرية، ظلت علاقات الأخيرة مع واشنطن ترتكن على تصور استراتيجى أمريكى مفاده، أن تكثيف الدعم العسكرى لإسرائيل، سيضمن لها التفوق الكاسح على العرب؛ بما يكفل ترسيخ الاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط. وبناءً عليه، بدأت المساعدات العسكرية الأمريكية تنهال على تل أبيب منذ العام 1949. وبعدها بثلاثة أعوام، وقع الجانبان اتفاقا للدعم اللوجيستى؛ تلاه آخر للتعاون الأمنى. ومنذ سنة 1958، تعززت مساعدات واشنطن الأمنية والعسكرية للإسرائيليين، حتى اكتسبت ديمومتها بعد حرب 1967، ووصلت ذروتها بعد توقيعهم اتفاق السلام مع مصر سنة 1979. وفى عام 1985، اتفق رئيس الوزراء الإسرائيلى حينها، شيمون بيريز، مع جورج شولتز، وزير الخارجية الأمريكى بإدارة، ريجان على تقديم منحة سنوية لإسرائيل بقيمة ثلاثة مليارات دولار، يتجه جلها للأغراض الأمنية والعسكرية.
فى مذكراته، أورد المشير الجمسى، رئيس هيئة العمليات أثناء حرب أكتوبر 1973، أن واشنطن هى التى بلورت تقديرات الموقف العسكرى الإسرائيلى فى مستهل الحرب، كما وضعت لها خطط القتال خلال الأيام التالية. ففى فجر الثامن من أكتوبر، وصل إلى مقر رئاسة الأركان الإسرائيلية مسئول أمريكى عسكرى رفيع، وبحوزته مجموعة من التقارير وصور الأقمار الاصطناعية الخاصة بتفاصيل المعارك ومواقع وتحركات الجيوش. وعمد إلى تنفيذ خطة أمريكية ترمى إلى حرمان مصر وسوريا من استكمال انتصارهما العسكرى المبهر، عبر توجيه ضربة مكثفة لإحدى الجبهتين السورية أو المصرية أولًا؛ بحيث يتم شلها، حتى يتسنى لإسرائيل مواصلة القتال على جبهة واحدة. بيد أن الخطة الأمريكية أخفقت، وواصل الجيشان المصرى والسوى قتالهما ببسالة، ونجحت القوات المصرية فى إفشال الهجوم الإسرائيلى المضاد. حتى إن وزير الحرب الإسرائيلى، موشى ديان، لم يتورع عن تسمية ذلك اليوم، «يوم الفشل العام».
بعيد انهيار إسرائيل المفجع والمدوى خلال الأيام الستة الأولى للحرب، وتعاظم خسائرها فى المدرعات، الطائرات والأفراد. تزامنا مع تهاوى خط بارليف وسقوطه تحت سيطرة المصريين، الذين أقاموا رءوس جسور على الضفة الشرقية للقناة، احتلوا المواقع الحصينة، وحرروا مدن شمال سيناء. استغاثت، جولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، حينئذ، بالرئيس الأمريكى نيكسون، قائلة: «أنقذونا من الطوفان المصرى». وعلى الفور، استجاب الأمريكيون، عبر إقامة جسر جوى، فى العاشر من أكتوبر، لتعويض الجيش الإسرائيلى عما خسره خلال الحرب من طائرات، دبابات وخلافه. وبعدها بثلاثة أيام، اكتسى ذلك الجسر الجوى صبغة رسمية واشتدت وطأته، فيما سمى بعملية «عشب النيكل». وهى أضخم عملية إمداد جوى استراتيجى نفذتها قيادة النقل الجوى العسكرى الأمريكى، لإمداد إسرائيل بالعتاد الحربى.
بين طيات كتابها المعنون «حياتى»، أوردت جولدا مائير، «أن وصول طائرات النقل الأمريكية «سى 5 كالاكسى»، والطائرات العملاقة من طراز «سى 14 1»، ناقلات العتاد والسلاح، بصورة مستمرة، أنقذ إسرائيل مما لم تحمد عقباه». ولم يكتف الإسرائيليون باستخدام طائرات شركة العال «الجامبو» السبع، لنقل احتياجاتهم من الأسلحة والتجهيزات، وإنما جنحوا لاستئجار طائرات مدنية أمريكية لتسريع إجراءات النقل. وما إن رفضت شركات الطيران الأمريكية الأمر، مخافة المقاطعة العربية، حتى اتجه التفكير إلى استخدام طائرات النقل العسكرية الأمريكية. وعلى مدار 33 يوما، استمر الجسر الجوى الأمريكى، اعتبارا من 13 أكتوبر حتى 14 نوفمبر 1973. وخلال تلك الفترة، تم شحن 22,225 طن من الدبابات، المدفعية، الذخيرة وإمدادات أخرى، بقيمة مليارى دولار. تضمنت تزويد إسرائيل بمقاتلات حديثة من القواعد الأمريكية بأوروبا، طبعت عليها إشارة سلاح الجو الإسرائيلى، لتنخرط فى المعارك على الفور. ولقد منحت تلك الإمدادات قبلة الحياة لإسرائيل، إذ عوضتها عما فقدته، ومكنت قواتها من إبطاء وتيرة التقدم المصرى والسورى فى مسارح العمليات.
لم تكد تمر أيام أربع على بدء جسر الإنقاذ الجوى الأمريكى لإسرائيل، وما تمخضت عنه تقارير وصور الأقمار الاصطناعية الأمريكية لتل أبيب، عن أوضاع القوات المصرية على الجبهة، من حدوث ثغرة الدفرسوار؛ حتى أعلنت الدول العربية النفطية، فى يوم 16 أكتوبر، رفع أسعار النفط بنسبة 17%. مع تقليص إنتاجه، وفرض حظر نفطى على الدول الداعمة لإسرائيل؛ بغية إجبارها على وقف ضخ السلاح لتل أبيب. على إثر ذلك، اندلعت أزمة النفط الشهيرة عام 1973، وما استتبعته من انهيار مدو فى أسواق الأوراق المالية، استمر حتى نهاية عام 1974، وأضر بجميع الأسواق الرئيسة حول العالم. فيما اعتُبر واحدة من أسوأ حالات ركود بورصات الأوراق المالية فى التاريخ الحديث. ومن المثير فى هذا الصدد، أن وثائق، أفرجت عنها الحكومة البريطانية عام 2004، كشفت عن نوايا الولايات المتحدة للاستيلاء على منشآت وحقول النفط بالخليج العربى، بعد فرض الحظر النفطى. بموازاة ذلك، أعلنت الولايات المتحدة، مطلع فبراير 1974، عن خطة «مشروع الاستقلال الأمريكى فى مجال الطاقة»، تضمنت إنشاء وكالة الطاقة الدولية، لضبط أسواق الطاقة، وتقليص الاعتماد على النفط العربى. وفى 17 مارس 1974، وعلى وقع تطور محادثات فض الاشتباك بين مصر وإسرائيل، أعلن وزراء الطاقة العرب إنهاء الحظر النفطى.
كان الجسر الجوى الأمريكى العسكرى لإسرائيل فى حرب أكتوبر 1973، من الضخامة، إلى حد دفع بتقرير لصحيفة «نيويورك تايمز»، الإفصاح، مؤخرا، عن استعانة أوكرانيا، فى حربها ضد روسيا هذه الأيام، بأسلحة أمريكية مودعة بمخازن إسرائيلية، تحوى بقايا ذلك الجسر. فرغم أنها كانت مخصصة للاستخدام فى صراعات الشرق الأوسط، فيما أجازت واشنطن لإسرائيل الاستعانة بها فى حالات الطوارئ؛ لفت التقرير إلى سماح واشنطن باستخدامها لتلبية متطلبات أوكرانيا المتفاقمة من قذائف المدفعية. فنتيجة لنفاد المخزونات الأمريكية، وعدم تمكن المجمع الصناعى العسكرى الأمريكى من توفير الاحتياجات الأوكرانية المتنامية، لجأ البنتاجون للاستعانة بإمدادات بديلة، من كوريا الجنوبية وإسرائيل، لسد الفجوة المتعاظمة. وأفاد التقرير بأن إسرائيل رفضت، فى البداية، إمداد أوكرانيا بالأسلحة والذخيرة، خشية الإضرار بعلاقاتها مع موسكو، لكنها اضطرت، لاحقا، إلى الإذعان للضغوط الأمريكية.
منذ عام 1992، بدأ خبراء ومسئولون عسكريون إسرائيليون يبدون مخاوفهم من أن يفضى تدفق المساعدات العسكرية الأمريكية لبلادهم إلى تقويض استقلالية قرارها فى أوقات الطوارئ، أو أن يعيق تطور صناعتها العسكرية الوطنية. لاسيما وأن بعض الاتفاقات العسكرية الثنائية، تشترط إنفاق جميع الأموال المخصصة لتلك المساعدات داخل الولايات المتحدة. ما يعنى أن شركات الصناعات العسكرية الإسرائيلية، قد تخسر مليارى دولار سنويا؛ بينما يفقد 22 ألف عامل إسرائيلى، يعملون بها، وظائفهم. بدوره، أكد وزير القضاء الإسرائيلى الأسبق، يوسى بيلين، أنه برغم امتنان إسرائيل للولايات المتحدة، جراء مساعداتها السخية والمفيدة لها، لكنها تخشى أن تكرس الاعتماد الإسرائيلى على واشنطن، مما يعرقل تطور الصناعات العسكرية الإسرائيلية، أو يجهض حرية تل أبيب فى تنويع مصادر الحصول المستدام والميسر، على التكنولوجيا والمعدات العسكرية.
على وقع النتائج المبهرة لحرب أكتوبر1973، تراءى لمسئولين وخبراء أمريكيين، ضرورة التخلى عن الاعتقاد التقليدى بشأن حتمية تعزيز التفوق العسكرى الإسرائيلى على العرب، لضمان استدامة الاستقرار فى الشرق الأوسط. ومن ثم، بدأ التفكير الأمريكى فى تبنى مقاربة دبلوماسية لتسوية الصراع العربى ــ الإسرائيلى. بموازاة ذلك، ظهرت مقترحات لسياسيين أمريكيين، على شاكلة المرشح الرئاسى الديمقراطى السابق، بيرنى ساندرز، لربط استمرار تلك المساعدات، بتغيير إسرائيل سياساتها، إزاء الفلسطينيين. أو احترامها مبادىء الديمقراطية واستقلال القضاء. ولطالما أظهرت نتائج استطلاعات للرأى، موافقة أمريكيين كثر على تقييد تلك المساعدات. غير أن أروقة صنع القرار، تأبى إلا استبقاء الالتزام الأمريكى التاريخى حيال إسرائيل.