أغلب الظن أن كثيرين فى أنحاء العالم ــ وربما داخل الولايات المتحدة نفسها ــ لا يعرفون أن سطح البيت الأبيض تشغله شبكة صواريخ دفاعية مضادة للطائرات ومضادة للصواريخ. هذا على سبيل الاحتياط لمواجهة هجوم خارجى بهذا النوع من الأسلحة.
هذا جزء من تراث أمريكا الدفاعى من أيام وجود «الدولة الأعظم» الأخرى ــ الاتحاد السوفييتى ــ وربما يكون فى طريقه إلى الزوال بعد أن أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية «الدولة الأعظم الوحيدة فى العالم».
لا أحد يستطيع أن يلوم جنرالات الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية. فلا أحد يستطيع أن ينكر أن ضرب البيت الأبيض بالصواريخ يمكن أن يشل عملية اتخاذ القرار الأمريكية فى اعلى مستوياتها، وهو ما يعرض الولايات المتحدة كلها للخطر.. بل لخطر استراتيجى داهم.
أما الآن فإن الولايات المتحدة لا تكاد تكون مهددة بالطائرات الإستراتيجية أو الصواريخ ــ حتى على الرغم من وجود خلافات أساسية تتعلق بالمصالح الكبرى مع كل من الصين وروسيا، وكذلك وجود منافسات تشبه تلك التى أدت إلى كل من الحربين العالميتين الاولى والثانية مع اوروبا. لا تبدو شبكة الصواريخ الدفاعية فوق سطح البيت الأبيض ضرورة استراتيجية كما كانت فى زمن الحرب الباردة.
لكن الولايات المتحدة تبدو الآن مهددة ــ ومن داخلها وليس من الخارج ــ بخطر داهم أكثر جدية وخطورة، وان لم يكن له قدرة التدمير التى استوجبت تركيب هذه الشبكة الصاروخية الدفاعية.
●●●
لقد تحولت الحركة الجماهيرية التى أطلقت على نفسها اسم حركة «احتلال وول ستريت» إلى حركة أكثر شمولا تتجه ليس فقط إلى احتلال حى المال والأعمال فى نيويورك بل إلى احتلال كل بورصات المال فى المدن الأمريكية الكبرى. وتشير الدلائل الأخيرة إلى أن الحركة تتجه نحو احتلال مدن أمريكية بأكملها مثل بوسطون وشيكاغو وواشنطن العاصمة وغيرها. سلاحها فى هذا كله لا يعتمد إطلاقا على قوة النيران. فلا بنادق ولا مسدسات ولا حتى صواريخ مضادة للدبابات وبالتالى لا صواريخ استراتيجية ولا أى من أسلحة الدمار الشامل أو المحدود. انها تعتمد فقط على قوة الحشد الجماهيرى، مئات آلاف من البشر وإذا لم تكف فمليونيات لا تكاد تحصى تجتاح ميادين المدن وربما تهتف «سلمية.. سلمية» بل ربما تطلق الهتاف الذى تحول إلى تقليد ثورى بين جماهير البلدان التى تجتاحها الثورات: الشعب يريد تغيير النظام.
ميدان التحرير؟ نعم هذا هو الملهم الحقيقى لجماهير الأمريكيين الذين يتوقون إلى تغيير النظام بعد ان فقدوا ثقتهم تماما. لا أحد من الأمريكيين الذين تتحدث اليهم وسائط الإعلام المرئية أو المقروءة أو المسموعة ينكر أن الجماهير الأمريكية فقدت ثقتها بالنظام وإنها ــ اذ تتطلع إلى ثورات الربيع العربى لا تجد ما يمنع من ان تحتشد معبرة عن إرادة التغيير كما فعل المصريون.. حتى وان كانت النتائج فى مصر لا تبشر بانتصار حاسم للثورة فان تغيير النظام فى أمريكا قد يؤدى إلى حسم كل ثورات الربيع العربى بل والعالمى لصالح الجماهير والتغيير.
وليس هناك ما يستبعد أبدا أن تفكر الجماهير الأمريكية فى احتلال البيت الأبيض ــ أو ربما تفكر فى أن تحتل أيضا مبنى الكابيتول حيث المقر الرئيسى للكونجرس الأمريكى بمجلسيه النواب والشيوخ. إذ ما فائدة احتلال العاصمة واشنطن إن لم تسيطر الجماهير على البيت الأبيض والكونجرس حيث يصنع القرار السياسى والاقتصادى والعسكرى؟
لا يعرف أحد من الآن إذا كان هذا الاحتمال قد طرأ على أذهان المخططين الاستراتيجيين فى واشنطن، أو إنهم مشغولون بقرارات وتبعات الانسحاب من العراق قبل نهاية هذا العام وقرارات الاستمرار فى حرب أفغانستان والمضى نحو حرب أخرى فى باكستان بعد ان بدأت تتحول حرب أفغانستان إلى حرب مزدوجة تحمل اسم «حرب أفغاكستان». على أى الأحوال فإن المخططين الاستراتيجيين لا يملكون الخبرة والدراية الحربية التى تمكنهم من مواجهة الزحف الجماهيرى السلمى على طريقة ميدان التحرير. واذا وضعنا فى اعتبارنا ان النظام الأمريكى لا يفتقر إلى الأعداد الهائلة من قوات الشرطة والأمن الداخلى، ولكن التجربة الملهمة تؤكد أن هذه القوات بدورها لا تستطيع ان تواجه المليونيات حتى بأسلحة القوات الأمنية الاتحادية أو تلك الخاصة بكل ولاية. باختصار فانه اذا تعرض البيت الأبيض أو الكونجرس أو هما معا للاحتلال فان النظام الأمريكى سيواجه وضعا مربكا للغاية يمكن ان يؤدى به إلى طلب تدخل القوات المسلحة.. ولكن التجربة الملهمة تؤكد عند هذا الحد من التطورات أن ولاء القوات المسلحة حتى الأمريكية ــ فى مثل هذه اللحظة ــ يمكن أن يكون للجماهير وليس للنظام. مع ذلك قد يختار النظام اللجوء للقوات المسلحة اعتمادا على أن النتائج ليست مضمونة إلى النهاية لصالح قوى الاحتلال الجماهيرية.
●●●
باق من الزمن على صعود معركة اعادة انتخاب الرئيس أوباما سنة بالتمام والكمال. عندئذ تبلغ حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية ذروتها، وقد تكون هذه اللحظة الزمنية انسب اللحظات لمليونية احتلال البيت الأبيض والكونجرس اللذين يمتد بينهما فى قلب واشنطن شارع عريض هو شارع بنسلفانيا وهو يتسع بالفعل لزحف جماهيرى سلمى لاحتلال هذين الحصنين اللذين يحتكران صنع القرار.
ستهتف الجماهير الأمريكية فى موجة احتلال البيت الأبيض و/أو الكونجرس «الشعب يريد إسقاط النظام». لكن لابد أن نضع فى الاعتبار أن تعبير النظام على السنة المحتجين الأمريكيين لا يعنى نظام الحكم، إنما يعنى نظام التفاوت الاقتصادى وبالتالى المعيشى بين فقراء أمريكا وطبقتها المتوسطة ــ الذين يمثلون نسبة 99 بالمائة من تعداد السكان الأمريكى ــ وبين أغنيائها الذين لا يتجاوزون فى التعداد نسبة واحد بالمائة. فهذا هو المصدر الرئيسى للفساد فى أمريكا. لقد دل آخر استطلاع للرأى العام الأمريكى ــ أجرته صحيفة نيويورك تايمز وفضائية سى.بى.اس. التليفزيونية ــ فى الأسبوع الماضى على أن «نحو كل الأمريكيين»، وهذا تعبير نادرا ما يظهر فى استطلاعات الرأى الأمريكية، يشعرون بالخوف من أن الاقتصاد الأمريكى أصابه جمود أو أنه يتدهور، وأن ثلثى الأمريكيين يرون أن الثروة ينبغى أن توزع بطريقة أكثر عدلا فى أنحاء البلاد بعد ثلاثة عقود سادتها أنماط توزيع غير عادلة أكثر من أى وقت مضى.
ودل هذا الاستطلاع نفسه على أن تسعة من بين كل عشرة من الأمريكيين المسجلين كمؤيدين للحزب الديمقراطى ونسبة ثلثين من المستقلين (أى الذين لا يسجلون كديمقراطيين أو كجمهوريين) يقولون إن توزيع الثروة فى أمريكا ينبغى أن يعدل ليصبح أكثر إنصافا ومساواة. الجمهوريون وحدهم (أى ذوو الاتجاهات المحافظة) يعتبرون فى أغلبيتهم أن توزيع الثروة فى أمريكا عادل بصورته الحالية.
فهل يتحول موسم الانتخابات الرئاسية الأمريكية فى ذروته خلال الشهور المقبلة إلى موسم احتلال البيت الأبيض خصوصا بعد أن خيب أوباما الآمال التى علقها عليه فقراء أمريكا ــ بمن فيهم السود ــ؟وماذا ستكون نتائج هذا الاحتلال؟
لعل هذا السؤال بحد ذاته سيفوق أهمية السؤال عن الرئيس التالى للولايات المتحدة، وربما يبحث المحللون الصحفيون عن تعبير آخر غير تعبير «الرجل الذى سيحتل البيت الأبيض للسنوات الأربع القادمة» فى الإشارة إلى الرئيس الجديد.
ذلك ان احتلال البيت الأبيض سيحمل معنى مختلفا تماما عندما يكون المحتلون هم ملايين المحتجين السلميين الذين سيعلو هتافهم: الشعب يريد إسقاط النظام، وسيدرك الجميع أن المقصود هو إسقاط الرأسمالية الظالمة، لا أكثر وليس ــ بالتأكيد ــ أقل (...)
على أى الأحوال سيكون هذا مشهدا غريبا ورهيبا. والعالم سيتغير.. بل إنه فى الواقع يتغير.