تخيلوا أن أول جمعية أهلية تأسست فى مصر كانت فى عام ١٨٦٨، يعنى من ١٥١ سنة. هذه الجمعية كان اسمها «جمعية المعارف»، لصاحبها محمد عارف باشا.
السطور التالية ليست عن هذه الجمعية أو صاحبها، ولكن عن أن العمل الأهلى فى مصر قديم جدا، ومتأصل وأصيل، وينبغى أن نهتم به وندعمه بكل الطرق مادام فى إطار القانون والمصلحة العامة.
الذى لفت نظرى أكثر إلى هذا الموضوع هو الدكتور محمد أبوالغار، الشخصية التى تحظى باحترام الجميع فى مصر.
فى ١٨٧٨ تأسست «الجمعية الخيرية الإسلامية»، واللافت للنظر مثلا أن أهدافها الأساسية لم تكن إقامة دولة الخلافة، بل نشر الثقافة والتمثيل المسرحى. واللافت أكثر أنه فى نفس العام تأسست جمعية «الاقتصاد القبطية» على يد يعقوب نخلة، وكان من بين أهدافها نشر الآداب والفنون. هذه المفارقة تكشف لنا حجم ما تعرض له المجتمع المصرى، من قصف متطرف عنيف، حتى وصلنا للحالة الراهنة.
فى عام ١٨٩٠ تأسست جمعية «المساعى المشكورة» بواسطة كبار ملاك الأراضى بالمنوفية، وأقامت العديد من المدارس، منها ثالث مدرسة ثانوية فى مصر بعد القاهرة والإسكندرية ولذلك، كما يقول أبوالغار، كانت نسبة التعليم فى المنوفية ١٠٠٪.
الأمير يوسف كمال أسس عام ١٨٩٢ جمعية «محبى الفنون»، وفى عام ١٩٠٠، تأسست جمعية «أنصار التمثيل».
أما الجمعية الأكثر تأثيرا وقتها، فكانت تلك التى أسستها شخصيات عامة، من بينهم مصطفى كامل وسعد زغلول ومحمد عبده، ومحمد فريد، وقاسم أمين، لإنشاء الجامعة الأهلية والتى خرجت إلى النور عام ١٩٠٨، رغم معارضة الاحتلال البريطانى، وهى الجامعة التى نعرفها الان باسم جامعة القاهرة.
إذا الجمعيات الأهلية فى مصر قديمة، ومتشعبة فى جميع المجالات تقريبا. وهو ما يعنى أن مصر رائدة فعلا فى الدعوة للفنون والآداب والتعليم والعمل الخيرى. وبالتالى كان طبيعيا، أن تكون الأكثر تأثيرا «القوة الناعمة» فى المنطقة بكاملها.
أبو الغار، هذا العالم الكبير، كان يتحدث فى المسرح الكبير، بدار الأوبرا ليلة الجمعة قبل الماضية بصفته عضو مجلس أمناء جوائز ساويرس الثقافية فى دورتها الرابعة عشرة.
ليلتها ــ وقبل توزيع الجوائز ــ سمعت كلمات طيبة من د. منى ذو الفقار عضو مجلس الأمناء عن أهمية «التمكين الثقافى»، فى حين كانت كلمة مؤسس الجائزة وممولها سميح ساويرس قصيرة جدا جدا.
هذه الجائزة فرصة لتسليط الضوء على أهمية دور رجال الأعمال فى نشر وتشجيع الثقافة والفنون والآداب، والتعليم والعمل الأهلى عموما، ولدينا فى مصر نحو 50 ألف جمعية أهلية.
كلنا نعرف ما يفعله رجل الأعمال الأمريكى الشهير بيل جيتس فى العمل الخيرى ونتمنى أن نرى مثله كثيرين فى مصر. وللموضوعية فهناك لدينا نماذج طيبة، مثل الدكتور أحمد هيكل، خصوصا فيما يتعلق بالمنح الدراسية الداخلية والخارجية، التى تخصصها «شركة القلعة» للطلاب عموما، أو للأهالى، فى المناطق المحيطة بالمشروعات الكبرى، مثلما هو حاصل فى مسطرد بجانب معمل التكرير.
العمل الأهلى كان قد قطع شوطا كبيرا قبل ٢٥ يناير ٢٠١١، لكن تبين أن بعض الجمعيات المتطرفة، قد استغلت ذلك، للتغلغل فى مفاصل المجتمع المصرى، عبر المساعدات الإنسانية خصوصا فى التعليم والصحة.
إذا كيف يمكن حل هذه المعضلة؟!. الدولة وجهت ضربات قوية لهذه الجمعيات. لكن المطلوب تشجيع قيام جمعيات بديلة، لأن المتضرر فى هذه الحالة لم يكن المتطرفين فقط، ولكن المواطنين الأكثر احتياجا.
المفارقة أن كل ذلك حصل بالتوازى مع تضييق الحكومة على العمل الأهلى، بإصدار القانون الأكثر إثارة للجدل «70 لسنة 2017». ومن حسن الحظ أن الرئيس عبدالفتاح السيسى طلب إعادة النظر فى القانون، وهو ما يتم الآن عبر وزارة التضامن الاجتماعى.
كتبت فى الشهر الماضى، وأكرر اليوم عن أهمية أن تدرك الحكومة أن تشجيع العمل الأهلى والمدنى يصب فى النهاية فى صالح المجتمع.
من دون المجتمع المدنى الأهلى، لن تستطيع الحكومة أن تقوم بكل شىء، أو تواصل العمل مهما كانت كفاءتها ونيتها الحسنة، فما بالكم بأن كفاءة العمل الحكومى، محل شك كبير، خصوصا فى ظل نقص الكوادر المؤهلة.
نعرف حساسية الحكومة فى التضييق على الجمعيات ذات الصبغة السياسية، أو تلك التى تتلقى تمويلا خارجيا. لكن لماذا لا تشجع بقية الجمعيات العامة فى نشر الثقافة والفكر والفن والإبداع ومساعدة الناس. سؤال لا أجد إجابة منطقية عنه حتى الآن؟!.