تكره السلطة عادةً من يراقبها ويفضحها ويكشف حقائق ومعلومات تحاول دائما إخفاءها عن الناس، وبما أن مهمة الصحفى هى الرقابة وكشف المستور؛ فكان لزاما على السلطة فى بلادنا إنهاء دور الصحفى باعتباره خصما يجب إغواؤه وشراؤه أو إخضاعه وحصاره فى مورد رزقه، ووصل الأمر إلى ملاحقته باعتباره «شريرًا» ومتهما بـ«نشر معلومات كاذبة تهدف إلى إثارة البلبلة وزعزعة الأمن والاستقرار».
فى السنوات الثلاث الماضية حملت السلطة القائمة الصحافة والإعلام مسئولية إخفاقها فى العديد من الملفات السياسية والاقتصادية، فالرئيس عبدالفتاح السيسى لا يفوت فرصة إلا ويعبر فيها عن انزعاجه من أداء الصحافة، وفى أكثر من مرة وجه إليها اللوم بشكل واضح وصريح، بدءا من «يا بخت عبدالناصر بإعلامه.. وآااااه منكم يا إعلاميين»، مرورا بـ«مش عايز حد يتكلم فى الموضوع ده تانى»، وصولا إلى «هشتكيكم للشعب».
وبالرغم من السيطرة على معظم المنصات الإعلامية بعد حجب كل المواقع المعارضة والمستقلة وتأميم نحو 90% من المؤسسات الصحفية والقنوات الفضائية فإن عددا من رموز السلطة التنفيذية والتشريعة مازال يرى أن الصحافة هى «السبب فى العديد من المشكلات»، على حد تعبير الدكتور على عبدالعال رئيس البرلمان فى جلسة عامة لمجلسه قبل أسبوع.
كل ما سبق يمكن فهمه واستيعابه فالسلطات لا تحب «دوشة الصحافة»، ولو تمكنت لأجبرت الصحف على نقل ما تريد فقط، أو أغلقتها وأراحت نفسها من «وجع الدماغ».
لكن هل يمكن تقبل ذلك من «محامى الشعب» النائب العام؟.
الأربعاء الماضى أصدر النائب العام المستشار نبيل صادق بيانا كلف فيه «المحامين العموم ورؤساء النيابات فى دائرة اختصاصهم، بالاستمرار فى متابعة وسائل الإعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعى، وضبط ما يبث فيها من أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة، والتى قد تتسبب فى تكدير السلم العام أو إلقاء الرعب فى نفوس المواطنين».
وطالب صادق، فى بيانه، النيابة باتخاذ الإجراءات القانونية حيال تلك الوسائل، كما طالب الجهات المسئولة عن الإعلام بإخطار النيابة بما يمثل خروجا على مواثيق الإعلام والنشر، انطلاقا من دورها الوطنى والمهنى.
واستخدم النائب العام فى بيانه تعبير «قوى الشر» الذى دأب الرئيس السيسى وأركان سلطته على استخدامه فى وصف كل من يعارض سياستهم، «فى ضوء ما تلاحظ أخيرا من محاولات قوى الشر النيل من سلامة الوطن ببث ونشر الأكاذيب المختلفة على وسائل الإعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعى».
بعيدا عن تصريحات التأييد التى صدرت من جهات وشخصيات اعتادت التصفيق لكل ما يصدر أو سيصدر من قرارت يتخذها النظام الحاكم، فبيان النائب العام أحدث حالة من القلق العميق فى أوساط المعنين بحرية واستقلال الصحافة والإعلام، فالرجل المناط به الحفاظ على الحقوق والحريات والملاذ الذى يلجأ له أهل المهنة لحمايتهم من تعسف السلطة وبطشها استخدم تعبير «قوى الشر»، وأعطى أوامره بتتبع ما ينشر فى وسائل الإعلام، وهو ما قد يمثل قيدا جديدا على حرية الرأى والتعبير فى بلد ضاقت فيه هذه المساحة بدرجة خانقة.
الدستور المصرى حظر «فرض أى رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها، إلا فى زمن زَمن الحرب أو التعبئة العامة». وألزم «الدولة بضمان استقلال المؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام المملوكة لها، بما يكفل حيادها، وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية، ويضمن المساواة وتكافؤ الفرص فى مخاطبة الرأى العام».
«حرية التعبير هى حجر الأساس الذى يستند إليه النظام الديمقراطى ولا مفر منه لتشكيل الرأى العام، ويمكن القول بأن مجتمعا غير مطلع جيدا ليس مجتمعا حرا»، وفقا لما جاء فى المواثيق الدولية المعنية بالحقوق المدنية والسياسية.
«حرية الصحافة تلزمها حماية خاصة كى تتمكن من لعب دورها الحيوى المنوط بها، دور (الحارس العام) ومن تقديم المعلومات والأفكار التى تهم الرأى العام»، بحسب ما أعلنته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قبل سنوات.