تامير هايمن
فى هذه الأيام، تمارس إسرائيل، وبدعم أمريكى، ضغطا عسكريا قياسيا على «حماس» وقطاع غزة، بهدف تمديد المرحلة الأولى من اتفاق تحرير الرهائن والتوصل إلى إطلاق سراح مزيد من الأحياء منهم، وهو الهدف الذى يحتل المركز الأول فى جدول أعمال المجتمع الإسرائيلى. ومع ذلك، فإن الرؤيا الاستراتيجية التى توجّه مسار هذه العملية غير واضحة.
لا يمكن تأجيل النقاش الحاسم فى مستقبل القطاع، والدائر فعليا منذ اليوم الأول للحرب، لقد أدى، مرارا وتكرارا، إلى ثلاثة بدائل فقط للوضع النهائى.
• • •
البديل الأول (احتلال قطاع غزة وإنشاء حكم عسكرى): إن ميزة الحكم العسكرى للقطاع هى بالقدرة على الدفع قدما بواسطته بأهداف الحرب المتعلقة بـ«حماس». فإسرائيل هى التى ستحلّ محلّ سلطة «حماس». وأى توزيع للمساعدات الإنسانية سيجرى بواسطة الجيش الإسرائيلى، وستُمنع «حماس» من بيعها، ومن استخدام التوزيع لمصلحة سيطرتها المدنية. كما أن الوجود الدائم فى الميدان سيزيد فى احتمالات جمع المعلومات الاستخباراتية، وفى تآكل قدرات «حماس»، وسيساعد على مراكمة إنجازات عملانية ضدها. وفى المقابل، سيفتقر الحكم العسكرى إلى الشرعية وسط سكان القطاع، وفى الساحة الدولية، بالإضافة إلى تكلفته الاقتصادية الكبيرة، وتداعياته على الاقتصاد الإسرائيلى.
سيتطلب الدفاع عن القطاع عددا كبيرا من القوات، وسيكون هذا على حساب القوات فى الضفة الغربية، وعلى الحدود الشمالية. كما أن تجنيد الاحتياط بحجم كبير سيضرّ بالاقتصاد الإسرائيلى بصورة غير مباشرة بسبب الغياب الطويل لعناصر الاحتياط عن العمل.
سيؤثر عدم وجود شرعية دولية، سلبا، فى علاقات إسرائيل التجارية، وفى اقتصادها. ويمكن أن تعتبر دول كثيرة، باستثناء الولايات المتحدة، أن إعادة احتلال القطاع عمل غير قانونى ويتعارض مع قيمها. والتهديد الأخطر هو فرض حظر أوروبى على إسرائيل من دون إعلانه رسميا.
أخيرا، وما لا يقّل أهمية، العداء للسامية. من المحتمل أن يزيد الصراع ضد إسرائيل فى موجات العداء للسامية ضد الجاليات اليهودية فى العالم.
• • •
البديل الثانى (فرض حصار على القطاع): وفق هذا التوجه، تفرض إسرائيل على القطاع الواقع تحت سيطرة حماس حصارا جزئيا. ولا تسمح بإعادة البناء والتجارة، وتعمل على تعميق الشرخ بين الحركة وبين السكان. هذه الفكرة التى لم تكن ممكنة فى عهد بايدن، يبدو اليوم احتمال تنفيذها أكبر مما كان عليه فى فترة إدارة ترامب..
لكن ثمة مشكلة استراتيجية ينطوى عليها خيار الحصار، وهى أن تعتبره حماس انتصارا ودليلا على نجاحها فى مواجهة تحدّى الحرب ضد إسرائيل التى لم تتمكن من القضاء عليها وطردها من القطاع، والآن، هى تواجه الحصار، وهذا الوضع ليس جديدا عليها. وفى حالة الحصار، تبقى حماس هى التى تسيطر على المساعدات التى تصل إلى القطاع، وستواجه إسرائيل مشكلة فى منع وصول المساعدات إلى سكان المنطقة، وستكون أمام معضلة: إما تجويع السكان الذى سيجعل إسرائيل تواجه تهمة ارتكاب جريمة حرب، وإما بقاء حماس فى القطاع ضعيفة، لكن قادرة على البقاء. وتدل تجربة الماضى على أن حماس قادرة على توجيه غضب الناس ضد إسرائيل، متهمةً إياها بارتكاب جريمة حرب.
المشكلة الأساسية التى تنطوى عليها حالة الحصار هى الهزيمة العسكرية. أولا، لم تنجح دولة إسرائيل فى تحقيق أهداف الحرب التى وضعتها، ولم يُطلق سراح الرهائن، و«حماس» لا تزال موجودة. والدلالات الاستراتيجية للوضع أكثر اتساعا، ولا تتعلق بالقطاع وحده. فقد ترى الولايات المتحدة فى ذلك علامة ضعف.
بالنسبة إلى استنزاف حماس وإطاحتها من الداخل - ظهرت مؤشرات أولى إلى تمرّد شعبى ضد الحركة ودعوات إلى وقف الحرب وإبعاد قادة حماس عن المنطقة. لا يزال من المبكر تقدير حجم الاحتجاج، وما إذا كان سيكبر ويتوسع، وهل سيضطر قادة «حماس» إلى مغادرة القطاع، هربا من غضب الجماهير. فى غضون ذلك، أثبتت الحركة استعدادها لوقف مظاهر الاحتجاج ضدها بعنف واضح...
فى الخلفية، من المحتمل أن يؤدى الواقع المدنى الصعب والأزمة الإنسانية إلى تشجيع مَن لديهم القدرة على الوصول إلى دولة عربية على الهجرة. لكن الأغلبية الفقيرة والضعيفة من سكان غزة ستظهر كضحايا أبرياء لآلة الحرب الإسرائيلية، وستبدأ التبرعات بالتدفق، حتى إلى حماس.
• • •
البديل الأخير (حكم مدنى فلسطينى بديل): الميزة الكبيرة لهذا البديل هى اقتصادية. ففى ظلّ حكومة تكنوقراط وحُكم مدنى بديل، لن تقوم «حماس» بتوزيع المساعدات الإنسانية، ولن تقوى اقتصاديا. وستضعف مكانتها المدنية، شيئا فشيئا. ويمكن أن تعتبر إسرائيل ذلك تحقيقا لهدف الحرب. لكن العيب الأساسى فى هذا البديل هو استمرار وجود حماس تحت الأرض. وهناك مَن سيقول إنها مسألة وقت قبل أن يتخلص عناصر حماس من ممثلى الحكم المدنى البديل.
هذه السيئات كانت معروفة منذ بداية الحرب عندما قررت الحكومة أن فرض حُكم بديل فى القطاع هو النموذج المطلوب. وكان الحل الذى جرى التوصل إليه هو احتفاظ إسرائيل بالمسئولية الأمنية، ومواصلة سحق قدرات حماس من خلال سلسلة عمليات طوال أشهر عديدة، وصولا إلى إضعافها بصورة كاملة. وقضت الخطة بتدريب نحو 5 آلاف شخص فى الأردن، بتمويل أمريكى، وإعادتهم إلى القطاع للقيام بمهمات الشرطة، على أن تُدفع رواتبهم من مصدر غير «حماس».
فى الواقع، هذا النموذج كان خيار الحكومة الإسرائيلية فى بداية الحرب، لكنه لم يطبَّق بسبب عدم مناقشة الصلاحيات المدنية للسلطة البديلة. ويُعتبر الاقتراحان المصرى والإماراتى بشأن إعادة إعمار القطاع واستقراره، من دون أن تكون الحركة جزءا من السلطة، هما الأقرب إلى المصلحة الإسرائيلية، لكن إسرائيل رفضتهما. ويتضمن هذان الاقتراحان إنشاء تكتل دولى من دول عربية وغربية ستكون مسئولة عن إعمار القطاع ومراقبة عمل المجلس المدنى فيه. والاقتراحان لا يتضمنان مشاركة السلطة الفلسطينية. والفارق بين الاقتراحين ما يتعلق بهوية الكيان الذى سيسيطر على غزة. فبحسب الاقتراح الإماراتى، ستكون السلطة المعينة بمثابة سلطة عليا، بينما يتحدث الاقتراح المصرى عن لجنة مدنية من أهالى غزة الذين لا ينتمون إلى السلطة، ولا إلى حماس.
• • •
قبل زيادة الضغط العسكرى على قطاع غزة، يجب أن نحدد الوضع النهائى المرغوب فيه: إن البدائل الثلاثة إشكالية: من الناحية العسكرية، الحكم العسكرى هو الأفضل.
بينما من زاوية الأمن الوطنى، ومن خلال نظرة واسعة النطاق (اقتصادية وعسكرية ودبلوماسية)، فإن نموذج حكومة التكنوقراط هو الأفضل. وفى جميع الأحوال، استمرار حكم حماس هو الخيار الأسوأ، ويجب منعه، ومن هنا، فإن خيار محاصرة القطاع ليس خيارا جذابا.
الحكم المدنى البديل هو الخيار الأقل سوءا، ويجب مواجهة المشكلات التى ينطوى عليها، ومنع قيام ظاهرة «نموذج حزب الله» فى قطاع غزة. أى وجود ميليشيات مسلحة لها تأثير كبير فى الإطار السياسى يؤدى إلى شلل الحياة السياسية، ويهدد الاستقرار الداخلى.
معهد دراسات الأمن القومى
مؤسسة الدراسات الفلسطينية