وافقت الحكومة الإسرائيلية بالإجماع على إقالة رئيس الشاباك، رونين بار، وفى يوم 21 مارس الجارى، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية أمرا مؤقتا بتجميد قرار الحكومة بإقالة رئيس جهاز الشاباك، وذلك حتى صدور قرار آخر، ومع ذلك، تحدي نتنياهو قرار المحكمة العليا وأعلن، يوم السبت الماضي، أنه متمسك بإقالة بار.
لم تتم إقالة رئيس جهاز الأمن العام «الشاباك» فى دولة إسرائيل مسبقا، وخصوصا إذا كان السبب «مشكلة ثقة» بينه وبين رئيس الحكومة، حسبما ادّعى رئيس الحكومة بنفسه. لكن، هل نحن فعلا أمام مشكلة ثقة، أم أنها مشكلة ولاء؟
الولاء الوحيد الذى يجب أن يكون لرئيس الشاباك فى دولة إسرائيل هو للدولة نفسها، ولقوانينها. هذه البوصلة هى التى توجّه كلّ موظف وموظفة فى هذا الجهاز، وكلّ صاحب منصب، وطبعا قياداته العليا؛ الدولة هى البوصلة، وقد أقسموا على خدمتها. الولاء هو فقط للدولة ومواطنيها ومواطناتها، وليس لأى شخص آخر، ومَن يظن أنه يستطيع «ترويض» موظفى وموظفات الشاباك الممتازين والمخلصين، فهو ببساطة مخطئ؛ إمّا أنه لا يعرف الشاباك وموظفيه فعلا، أو أنه يدفن رأسه فى الرمال، ولست أدرى أيهما الأسوأ.
خلال سنوات خدمتى الطويلة، حضرت عددا لا يُحصى من جلسات الكابينيت، ومنتديات ضيقة مع رئيس الحكومة ووزرائه الكبار، واجتماعات لجنة الخارجية والأمن. لم يخطر فى بالى قط، وكذلك الأمر بالنسبة إلى زملائى وزميلاتى فى الخدمة، أن ننحنى أمام المستوى السياسى، ونخون دورنا والحقيقة المهنية التى نتمسك بها.
هل يخضع رئيس الشاباك وقادته للسلطة السياسية، وهل يجب عليهم الالتزام بسلطتها؟ بالتأكيد نعم، ولا شك فى ذلك إطلاقا، لا الآن، ولا فى السابق. ولكن، هل يجب على رئيس الشاباك وقادته الموافقة على الطاعة دائما، وأن يقولوا «نعم» لكل نزوة، وأن يمنعوا أنفسهم من إبداء أى نقد مهنى، أو موقف لا يتماشى مع مواقف الحكومة؟ الويل لنا إذا وصلنا إلى هذه الحال، فذلك سيكون كارثة، بالنسبة إلى دولة إسرائيل وشعبها. أن يكون تعيين رئيس الشاباك فى منصبه، فقط لأن رئيس الحكومة يعتقد أنه سيكون «تابعا» له، مثلما يقول العامة، هو وصفة لكارثة.
إن رئيس جهاز الأمن العام يقف على رأس المنظومة الأكثر حساسيةً فى دولة إسرائيل. هذه المنظومة، ومَن يقودها، يتعاملون مع عدد لا يُحصى من ساحات الصراع، بما فى ذلك: قطاع غزة، والضفة الغربية، والقدس، والمواطنون العرب فى إسرائيل، والإرهاب اليهودى؛ وساحة التجسّس الإيرانى وتجسّس دول أُخرى؛ دعم الجيش الإسرائيلى، وبشكل عام المنظومة الأمنية، فى عمليات تنفّذ فى دول بعيدة، حيث توجد تهديدات من البنى التحتية التابعة لـ«حماس»، والجهاد الإسلامى، وجهات أُخرى؛ ومجال السايبر وما يحمله من تهديدات متنوعة؛ وإجراء اتصالات بإسرائيليين، بغرض جمع معلومات داخل إسرائيل؛ ومواجهة تأثيرات دول وقوى عظمى تسعى لتوسيع الشرخ داخل المجتمع الإسرائيلى المتنوع؛ والترابط ما بين الجريمة المنظمة و«الإرهاب»؛ وأيضا فى حالات مؤسفة، إذا ما وقعت، بحسب الشبهات، أعمال تمس بأمن الدولة داخل أكثر المكاتب حساسيةً فى حكومة إسرائيل.
الشاباك هو منظومة تنفيذية، حادة، ذات تفكير هجومى فى عملياتها، وقد فشلت فشلا ذريعا فى السابع من أكتوبر 2023، حين لم تتمكن من توجيه إنذار فعلى كان من شأنه أن يستنفر الجهاز الأمنى، كما لم تدرك بعمق مدى جاهزية وقدرة ورغبة حركة حماس، بقيادة يحيى السنوار ومحمد الضيف، فى تنفيذ وتشكيل واقع جديد. إنه فشل موجع، بمقياس تاريخى، سيهزّ أركان الجهاز، وسيظل يرافقه أعواما طويلة قادمة. إنه جرح نازف وحقيقى، وسيستغرق وقتا حتى يلتئم.
أعاد رئيس الشاباك رونين بار الجهاز إلى مساره الطويل الذى يسير عليه فى الأسابيع التى تلت السابع من أكتوبر. عاد الشاباك إلى نهجه الهجومى، ونفّذ مهماته المتنوعة فى جميع ساحات القتال بأفضل شكل ممكن، محققا إنجازات كبيرة فى المجالين العملياتى والإحباطى. هذا يُعدّ تعبيرا عن القدرة على القيادة من جانب رونين بار، لا يمكن الاستهانة به، وخصوصا بعد صدمة السابع من أكتوبر وتحمُّله المسئولية المطلوبة منه عن الفشل.
أجرى الجهاز أيضا تحقيقات معمقة، خلصت نتائجها إلى ضرورة إحداث تغييرات جذرية فى مجالات عديدة، بينها تعزيز أنظمة الاستخبارات، وبناء قدرات جديدة فى مجالى الجمع والإحباط، والتصدى لحركة «حماس»، والميليشيات المسلحة التى لا تزال تسيطر على قطاع غزة حتى لحظة كتابة هذه السطور، بأساليب مبتكرة وخادعة وهجومية.
• • •
تواجه رئيس الشاباك القادم تحديات غير مسبوقة، من حيث حجمها وأهميتها، لأداء الجهاز وقدرته على مواصلة توفير الأمن لمواطنى ومواطنات إسرائيل. الشاباك مُطالَب بتجديد واستبدال قادة كبار وصغار، وبإجراء تغييرات تنظيمية وهيكلية جوهرية، فى ظل التهديدات المختلفة فى الساحات الحساسة، مع التركيز على القتال العنيف ضد الجانب الفلسطينى فى الضفة الغربية، كذلك، يجب عليه مواصلة الاستثمار فى قدرات تكنولوجية متقدمة يصعب حتى تخيُّل معناها وأهميتها، ومواجهة بنى تجسّس أكثر تطورا مما تم كشفه حتى الآن، وصدّ الإرهاب اليهودى ومحاولات المسّ بالنظام الديمقراطى.
اعتُبر الشاباك على مدار السنوات، أحيانا بحق، وأحيانا أخرى من دون وجه حق، منظومة يتمحور جوهر عملها وقدراتها على الجانب التكتيكى، بحكم مهماتها الاستباقية، إلا أن للشاباك أيضا قدرات استراتيجية مثيرة للإعجاب على المستويات العملياتية والتكنولوجية، وبالتأكيد، البحثية والبشرية، والتى لا تظهر دائما إلى العلن، ولا تُستثمر بالشكل الكافى، ولا سيما فى المجال الخارجى. سيتعين على رئيس الجهاز القادم تعزيز هذا الجانب بشكل جوهرى.
سيكون رئيس الشاباك القادم مطالبا بأن يكون «متخصصا فى الشئون العربية»، بمعنى أن يكون شخصا نشأ كضابط فى الميدان، ويتقن اللغة العربية بطلاقة، ويعرف الثقافة والفروق الدقيقة، وعايشَ الواقع الفلسطينى عن قرب، فى القرى والمدن ومخيمات اللاجئين؛ شخص ملمٌّ بأدق الفروق بين «حماس جنين» و«حماس الخليل»، وقادر على قراءة النصوص باللغة العربية بطلاقة، من دون الحاجة إلى فلترة عبر أدوات الذكاء الاصطناعى، وإذا أيقظته فى منتصف الليل، سيتمكن من تحليل المزاج السائد فى الشارع الفلسطينى فى أى لحظة زمنية. فى نهاية المطاف، لا بديل من الخبرة الطويلة. إن التخصص فى الشئون العربية هو مهنة، وليس عملا عشوائيا.
سيكون رئيس الشاباك القادم مطالبا، ليس فقط بأن يكون مديرا ممتازا، يتعين عليه اتخاذ قرارات صعبة وتنفيذ تغييرات جذرية، بل أن يكون أيضا قائدا. شخص ينظر إليه موظفو وموظفات الجهاز بعين التقدير، ويرونه درعا واقيا، وشخصية مهنية تقودهم فى طريق ملىء بالألغام. سيحتاج أن يكون حاضرا من أجلهم، وأن يناضل من أجل حقهم فى قول الحقيقة المهنية، سواء أمامه، أو أمام المستوى السياسى، وأن يتذكر ويذكّر، مرارا وتكرارا، بأن ولاءهم الأول والأخير هو للدولة.
• • •
فى هذا الوقت بالذات، تكتسب هذه الصفات أهمية مضاعفة. رئيس الشاباك القادم، سواء تم اختياره من بين أحد نواب الجهاز، أو شخصية رفيعة خدمت سابقا، ويُعرض عليها هذا المنصب المعقد، سيكون مطالَبا بالتصدى، بحزم، لرئيس حكومة مرتاب. سيضطر إلى التعامل مع حكومة لا يتردد وزراؤها، فى الأغلبية العظمى من الحالات، بشكل دنىء وعديم المسئولية، فى مهاجمة الشاباك وموظفيه، والحرص على تحميلهم المسئولية عند حدوث أمور سيئة؛ حكومة لا تصدق أحيانا الشاباك، وتراه كجسم منحاز سياسيا، الفكرة التى لا أساس لها من الصحة، بل إنها خطِرة.
أريك باربينج
ضابط سابق فى الشاباك
قناة N12
مؤسسة الدراسات الفلسطينية