أوروبا «تسمع الموسيقى».. وتتحسّس سكاكين أمريكا - مواقع عربية - بوابة الشروق
الأربعاء 26 مارس 2025 1:44 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

أوروبا «تسمع الموسيقى».. وتتحسّس سكاكين أمريكا

نشر فى : الثلاثاء 25 مارس 2025 - 7:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 25 مارس 2025 - 7:30 م

 

فى عامى 1814 و1815، اجتمعت الدول الأوروبيّة فى فيينّا (Congress of Vienna) من أجل حل خلافاتها الكثيرة ومعالجة الجرح الكبير الذى سبّبته حروب نابوليون بونابرت. يعتبر الكثير من المؤرّخين والمتخصّصين فى العلوم السياسيّة أن مؤتمر فيينّا شكّل العمود الفقرى لعلاقات مستقرّة بين الدول الأوروبيّة وأسّس للسلام فى القارّة العجوز. الأهم أنّ المؤتمر خلق فكرة الاتّحاد التى لم تبصر النور إلاّ بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية فى منتصف القرن العشرين.

غير أن الوقائع تشى بأن المؤتمر فشل فى تحقيق السلام والاستقرار. الدليل على ذلك أنّ الصراعات لم تختفِ، بل زادت، وتغيّر شكل القارة السياسى جذريًّا فى القرن التاسع عشر، مع زوال الكثير من الإمارات والدول، خصوصًا فى ما نعرفه اليوم بكل من إيطاليا وألمانيا، وانهيار الإمبراطوريّتين البروسيّة والهابسبورغيّة، واشتعال الصراع الدموى بين فرنسا وألمانيا. أيضًا ظهرت دول لم تكن موجودة فى زمن المؤتمر، مثل اليونان (1832)، رومانيا (بدءًا من سنة 1858)، هنغاريا (بدءًا من سنة 1866، وفعليًّا فى سنة 1918)، إيطاليا (1870)، ألمانيا (1871)، بلغاريا (بدءًا من سنة 1878)، تشيكوسلوفاكيا (1918)، ويوغوسلافيا (1918).

لعب عاملان مهمّان دورًا رئيسيًّا فى إقناع أوروبّا بالاجتماع فى فيينا، وتوفر الإجماع حولهما، وهما:

1) تنامى قوّة وحجم أى من الدول الأوروبيّة يُشكّل تهديدًا مباشرًا للآخرين، وبات هناك حاجة موضوعية للتوحّد لمنعه أو إفشاله بكل الوسائل (نموذج نابوليون فى فرنسا).

 2) التوحّد ضد أى عدو خارجى مشترك.

واللافت للانتباه أن المجتمعين تقصّدوا عدم دعوة السلطنة العثمانيّة، أكبر دولة أوروبيّة فى تلك الفترة، لحضور المؤتمر. ومع أنّ وضعها كان ضعيفًا، شكّلت الدولة العثمانيّة، برأى الأوروبيّين، خطرًا عليهم، لذلك سحبوا سكاكينهم وبدأوا بسنّها وبوضع الخطط لتقطيعها إلى دويلات صغيرة، فى أوروبّا الشرقيّة وحتّى فى الشرق الأوسط.

قراءة مختلفة لسايكس-بيكو

من هنا تكمن أهميّة قراءة اتّفاقيّة سايكس-بيكو بالعودة إلى مؤتمر فيينّا. بين عامى 1915 و1916، قام البريطانى مارك سايكس (Mark Sykes) والفرنسى فرانسوا بيكو (François Picot) والروسى سيرجى سازونوف (Sergei Sazonov) بالتفاوض حول تقسيم ما تبقّى من ولايات السلطنة العثمانيّة، ومن دون علم السلطنة.

سبق ذلك محاولات كانت السلطنة فيها شريكة فى التفاوض على تقسيمها، كما حصل فى البلقان وفى جبل لبنان مثلًا. وحتّى عندما أرسل الخديو محمّد على جيشه بقيادة ابنه إبراهيم باشا فى ثلاثينيات القرن التاسع عشر وسيطر على فلسطين وبلاد الشام وبعض مناطق الأناضول، وهدّد بتقويض السلطنة العثمانيّة، كان دفاع الأوروبيّين عبارة عن محاولة لإبقاء الضعيف على ضعفه، أى إنقاذه لنهبه.

خاف الأوروبيون من قيام دولة قويّة فى الشرق الأوسط يمكن أن تُهدّد مصالحهم (مع العلم أنّ محمّد على وإبراهيم باشا لم يوفّرا حذاءً أوروبيًّا إلا وقبّلاه حتى يرضى عنهما الغرب). وانتشرت حالات تدخّل القوى الأوروبيّة - بغطاء حماية «الأقلّيّات» - لتقطيع أوصال الدولة العثمانية المريضة إلى مناطق نفوذ لها.

للأسف، حصل ذلك مع بدء غرام «المثقّفين» العرب والأتراك وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط بالحضارة الأوروبيّة والمطالبة بالتمدّن والترقّى. فانطلت عليهم ألاعيب الغرب، واعتقدوا، بل أقنعوا أنفسهم أنّ مصالح الغرب تتلاقى مع تطلّعاتهم وأنّ الغرب يريد حقًّا لهم أنّ يصبحوا أقوياء وأغنياء.

من هنا، علينا أن نقرأ التاريخ بأدق تفاصيله حتى نفهم طريقة تفكير الأوروبيّين، والتى يبدو أنّها ما زالت ساريةً حتّى اليوم. فاتّفاقيّة سايكس-بيكو لم تكن بين بريطانيا وفرنسا. هى كانت معاهدة أوروبيّة بامتياز ضدّ عدو مشترك (وخروج روسيا منها لم يكن أساسًا فى الحسبان). وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى، اجتمع الأوروبيّون فى مؤتمر سان ريمو (1920) لإقرارها، وأعادوا تأكيدها فى معاهدة لوزان (1923)، مع بعض التغيّيرات التى تطلّبها الواقع الجديد، وتحديدًا ضرورة استخدام الدولة التركية الحديثة سدًّا أمام توسّع نفوذ الاتّحاد السوفياتى الذى أخذ مكان الدولة العثمانيّة عدوًا جديدًا لأوروبّا!

مسلسل إضعاف أوروبا

ومن سخرية القدر أنّ أوروبّا تواجه حاليًا المعضلة نفسها التى واجهتها الدولة العثمانيّة فى نهايتها. فها هى أوروبا بحاجة لمن يحميها، أما «المدافعون عنها» (أمريكا تحديدًا) فقد أصبحوا مصدر خطر عليها ألعن من خطر «أعدائها» (روسيا).

نعم، كشّرت أمريكا عن أنيابها وقرّرت نهب ثروات أوكرانيا الطبيعيّة. قرّرت ذلك من دون الرجوع إلى أوروبّا أو نيل موافقتها، وحتّى من دون إشراك أوكرانيا نفسها فى الأمر. نهبٌ على المكشوف، ينطبق عليه التعبير الشعبى اللبنانى: «حاكمك.. لاكمك».

لكن هل إعطاء جزء من أراضى أوكرانيا جائزة ترضية لروسيا من أجل تحييدها لمصلحة أمريكا هو آخر الحبل أم بدايته فى مسلسل إضعاف أوروبّا؟ لا يمكن إعطاء جواب حاليًّا كون المعطيات غير مكتملة بعد، والأمور يمكن أن تتطوّر فى اتجاهات متعددة.

لكن إذا قرأنا التاريخ جيّدًا، وبالعودة إلى هزيمة ألمانيا فى الحرب العالميّة الثانية، هناك حقيقة لا يعالجها المتخصّصون ولا يعرفها الكثيرون وهى أنّ هزيمة ألمانيا العسكريّة لم تكتمل إلاّ بهزيمتها عرقيًّا. ما أعنيه هو التطهير العرقى الهائل للألمان من دول شرق أوروبّا، وتحديدًا من دول البلطيق وبولندا وتشيكوسلوفاكيا، وهو الأمر الذى اتخذه النازيّون ذريعة للتوسّع شرقًا وتشكيل ألمانيا الكبرى. هذا القرار أصرّ عليه الأوروبيّون من أجل أن لا يكون لألمانيا أى أمكانيّة مستقبليّة بإعادة تكوين نفسها وتشكيل خطر جديد على التوازن الأوروبّى.

تكرّر الأمر مع انهيار الاتّحاد السوفياتى وقرار تقسيمه إلى دويلات، لكى لا يتمكّن الروس من إعادة تكوين دولة كبيرة وبالتالى الهيمنة على قرار أوروبّا. فكان المطلوب - كما حصل مع الألمان بعد الحرب العالميّة الثانية - تطهير عرقى للروس من دول الاتّحاد السوفياتى سابقًا من أجل القضاء على أيّ أمل بإعادة تأسيس روسيا القيصريّة. وهو ما تمّ العمل عليه فى دول البلطيق وأوكرانيا وجورجيا، لكن فلاديمير بوتين تنبّه لهذا المخطّط وأفشله عسكريًّا فى جنوب شرق أوكرانيا، وفى أبخازيا وجنوب أوستيا (جورجيا)، وترانزنيستريا (مولدوفا).

وحصل ذلك أيضًا مع تفكيك يوغوسلافيا وتقسيم تشيكوسلوفاكيا وجعلهما مجرد دول صغيرة خاضعة لإملاءات بروكسيل وغير قادرة على تغيير موازين القوى فى القارّة.

إلا أنّ حسابات أوروبّا ومصالحها لم تعد فى صلب حسابات أمريكا ومصالحها الآن، وسنشهد فى المرحلة المقبلة تداعيات أوروبية لهذا التغيير فى «العقيدة الأمريكية». فما أرادته أمريكا من أوروبّا بين الأعوام 1945 و1990 تغيّر. والمؤسف أن الأوروبيّين اعتقدوا أنّهم شركاء أمريكا، وها هم الآن يستفيقون على واقع أنّهم أذيال.. لا أسياد.

ومن سخرية القدر أنّ أوروبّا التى تآمرت وما تزال على شعوب العالم الثالث لسرقة ثرواتها، ها هى اليوم تجد نفسها على طاولة الذبح، عندما يتآمر عليها من هو أكبر وأقوى منها.

فى الخلاصة؛ ينطبق على أوروبا القول الساخر: «طابخ السمّ آكله». فمن جهة، تنتشر الفاشيّة فيها بحلل مختلفة، وأنا لا أعنى فقط الصعود المقلق لليمين العنصرى، بل ثمة فاشيّة تُسيطر على العقل السياسى الأوروبّى بكامله: فاشيّة «الخضر» واليسار فى النموذج الألمانى، وفاشية «يمين-الوسط» فى بولندا وفرنسا، وفاشيّة اليمين العنصرى فى هنغاريا وإيطاليا والنمسا، إلخ.. ومن جهة أخرى، ماذا إذا قرّرت أمريكا أن مصالحها الجديدة تتطلّب تفكيك القارّة العجوز؟ هنا قمّة السخرية بأن تجد أوروبّا نفسها مرغمةً على سماع الموسيقى التى كانت تعزفها للغير وتعتقد متعجرفة أنّها مُحصنة من ألحانها!

 

 

سليمان مراد

 

موقع 180

النص الأصلى:

 

 

التعليقات