تعتبر الوظيفة فى مصر الفرعونية من أهم الأشياء التى كان يحرص المصريون القدماء عليها. وكان يتم تعليم الأبناء كى يحصلوا على وظائف فى الدولة تكفل لهم التميز والثراء والوجاهة فى المجتمع. وكان الأب يعد ابنه كى يخلفه فى منصبه بعد وفاته. وكان يطلب من الملك أن يوافق على تولى ابنه منصبه من بعده.
إن الدولة فى مصر قديمة قدم الأزل. وكان الموظفون فى مصر الفرعونية هم الأساس الذى قامت عليه الدولة فى مصر قديما. وكان الموظفون يتكونون من الكهنة ورجال الدين والفنانين والأطباء والوزراء والموظفين المدنيين والعسكريين بدرجاتهم الوظيفية والموظفين الإداريين كالمشرفين على القصر الملكى أو الحدود المصرية أو بلاد النوبة، وتنوعت درجات وأطياف الموظفين؛ فكان من بينهم موظفون من كبار رجال الدولة وموظفون من درجات وطبقات وظيفية أدنى منهم، غير أن جميعهم انتمى إلى صفوة المجتمع المصرى القديم.
واستهل الموظفون عملهم فى الدولة منذ بدايات التاريخ الفرعونى منذ عصر الأسرة الأولى. ونجد مقابرهم فى مناطق سقارة وحلوان والأقصر والجيزة وغيرها. وركز الموظفون فى مقابرهم وأعمالهم الفنية وسيرهم الذاتية على أهم معالم مسيرة أولئك المسئولين الوظيفية والمحطات البارزة فى حياتهم. وكتب عدد كبير منهم سيرهم الذاتية كى يسجل أعماله ومفاخره من خلالها. وجذور السير عميقة فى التاريخ المصرى القديم، ودون شك تعود إلى لوحات الأسرة الأولى التى حمل أصحابها العديد من الألقاب مرورا بلوحات الطبيب «حسى رع» الخشبية من الأسرة الثالثة ووصولا إلى سيرة «متن» فى بداية الأسرة الرابعة وما بعدها. وفى هذه الأعمال النصية، يصف الموظفون خبراتهم التى مروا بها فى حياتهم خصوصا الوظيفية. وبدأت السير تقدم حياة أصحابها الوظيفية بتفاصيل عديدة مثل عهود الملوك الذين خدموهم ويطلق عليها «سير الوظيفة».
ولدينا موظفون معروفون منذ بدايات التاريخ المصرى القديم أمثال الوزير «حم كا» بمعنى «خادم القرين» الذى عاش فى عهد الملك «دن» من ملوك عصر الأسرة الأولى. ويعد من أقدم وأشهر الموظفين فى مصر من عصر الأسرات المبكر. وقد كشفنا فى سقارة عن مقبرة لهذا الموظف، وبها أقراص من الحجر والنحاس والخشب والعاج ومحلاة بمناظر بديعة وبعضها مطعم بقطع من المرمر.
وهناك أيضا الكاهن «حتب دى إف» بمعنى «القربان الذى يقدمه» من عصر الأسرات المبكرة، وله تمثال صغير وجميل يمثله فى وضع تعبدى جاثيا على ركبتيه، وهو موجود حاليا فى المتحف المصرى فى التحرير. وينسب هذا التمثال إلى عصر الأسرة الثالثة بالرغم من وجود أسماء الملوك الثلاثة الأوائل من الأسرة الثانية مكتوبة على ظهره. والتمثال يمثل درجة من درجات الفن المتقدم بالنسبة للأسرتين الأولى والثانية، ولكن فى نفس الوقت يمثل مرحلة مبكرة بالنسبة لفن النحت فى عصر الأسرتين الثالثة والرابعة.
وهناك أيضا كبير أطباء الأسنان الطبيب الأشهر «حسى رع» بمعنى «الممدوح من رع» من عصر الأسرة الثالثة من عهد الملك زوسر، والذى كان وزيرا فى عهده. وعثرنا على مقبرته الكبيرة المزينة، وبها لوحات بديعة مصنوعة من خشب الأرز المستورد من لبنان. كما تدل قطع الأثاث الفاخرة الموجودة فى مقبرته على أنه كان شخصية كبيرة وفى رتبة عالية ويحظى بثراء كبير. وتم تصوير «حسى رع» على هذه اللوحات وبجانبه اسمه ووظيفته بالكتابة الهيروغليفية. وهو مصور فى الوضع واقفا ويرتدى الملابس الرسمية وحاملا صولجانا، أو جالسا وأمامه منضدة عليها قرابين. واللوحات تبين تصوره من الجانب، وتظهر تفاصيله كاملة. وهو يعتبر أول طبيب يذكر اسمه فى التاريخ؛ إذ يذكر النص على اللوحة الخشبية «كبير أطباء الأسنان ». وحمل «حسى رع» يحمل لقب «مندوب الملك» ولقب «كبير العاصمة بوتو» التى كانت من المراكز المهمة فى الدلتا المصرية.
وهناك الموظف المعروف «دبحن» من عهد الملك منكاورع من عصر الأسرة الرابعة. وفى مقبرة «دبحن» فى هضبة الجيزة بالقرب من هرم الملك منكاورع نص سيرة ذاتية يذكر فيه «دبحن» وصف زيارة الملك منكاورع إلى موقع البناء لهرمه المسمى «إلهيٌ هو منكاورع»، ورافق الملك قائد القوات البحرية وكاهنان كبيران للإله بتاح، وكذلك الفضل الملكى الذى تكرمه به الملك عليه. ويوضح هذا النص الصورة البشرية الخاصة بالملك منكاورع فى نهاية عصر الأسرة الرابعة الفرعونية. وتعد سيرة «دبحن» الذاتية من أوائل السير الذاتية التى تقدم لنا نوعا من الفن القصصى حيث يخبرنا «دبحن» صاحب السيرة عن كثير من الأمور والأحداث عن نفسه.
لقد ألقت آثار وأعمال وسير الموظفين فى مصر الفرعونية ــ بشكل عفوى ــ بأضواء كاشفة على التاريخ الاجتماعى والسياسى والاقتصادى لمصر القديمة منذ أقدم العصور إلى نهايات التاريخ الفرعونى.
مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية