مدينة صغيرة فى الشمال الشرقى للولايات المتحدة الامريكية هى محل إقامتى للفصل الدراسى الثانى من هذا العام الجامعى، تحتضن هذه المدينة جامعة هى الأقدم، وإن لم تكن الأكبر أو الأشهر، فى المنطقة حيث تبلغ من العمر هذا العام مائة وخمسة وسبعين سنة. أدرس فيها وأسكن فى حرمها الجامعى وسط مبانٍ إقامة الطلاب أو ما نعرفه فى مصر باسم المدينة الجامعية.
فى أول يوم للدراسة ذهبت أبحث عن وجوه تشبه طلابى فى جامعة القاهرة، ووجدتهم. فهناك المتحمس لبدء العام الدراسى الحريص على معرفة كل ما يجب معرفته عن المنهج المقرر وما المطلوب منه كطالب للحصول على أعلى التقديرات. وهناك الطالب الذى لا يعلم بشكل محدد لماذا يدرس العلوم السياسية، وليست لديه خطط مستقبلية حول الاستفادة مما يتعلمه فى الجامعة ومستقبله المهنى، وفى الصف الأول تجلس هذه الطالبة الحريصة على أن تحدث تأثيرا إيجابيا لدى المدرس عبر التعليق أو توجيه الأسئلة بشكل مستمر. وأولئك الذين لا يبدو عليهم الاهتمام، إلى أن تذكر فكرة أو معلومة تستفز عقلهم ويبهرونك بقدرتهم على التعليق والتحليل.
•••
يسألوننى عن جامعة القاهرة وكيف الطلاب فيها؟ وما الفروق بين التدريس فى جامعة تعداد طلابها بمئات الألوف وجامعة طلابها بالآلاف. يسألوننى أيضا عن المنهج المقرر والامتحان وكم صفحة عليهم أن يكتبوها فى الامتحان ليحصلوا على تقديرات مرتفعة. أسألهم عن حياتهم وكيف يمكن ربط ما نفعله فى المحاضرة بواقعهم المعاش، واكتشفت أن ما كنت أظنهم عوالم مختلفة، ليسوا بهذا الاختلاف، وأن التركيز على اختلافات الثقافة والإمكانات يخفى الكثير من التشابهات بين جيل تشكل وعيه فى الألفية الجديدة وعبر وصلات الشبكة العنكبوتية.
فاجأتنى طالبة بعد أن عرضت فيديو لإحدى الأغنيات الشهيرة فى مصر خلال السنوات الماضية، بأنها لم تتوقع أن تشاهد الفتاة فى الفيديو ترتدى ملابس تشبه ملابسها، وأن الفرق كان فى غطاء الرأس. وعلمت أن الطلاب فى محاضرة أخرى كان لديهم رد فعل متحفظ عند رؤية كتابة باللغة العربية، ولكن بعد المحاضرة بعدة أيام وصلتنى منهم رسالة شكر، لأنى شاركتهم قصتى عن مصر وعن الثورة.
وراسلتنى طالبة تفسر لى موقفها المتحفظ من تبنى الخطاب النسوى، لأنه فى رأيها يكرس خطابا تمييزيا، وهى ترى أن الجوهر يجب أن يكون خطابا مطالبا بالمساواة للجميع بغض النظر عن النوع. وطلبت منى ألا اعتبر رسالتها إهانة، وفكرت كثيرا لماذا توقعت منى أن يكون تفسيرى لرسالتها إهانة؟ وفكرت كثيرا كيف يمكن فى عصر السماوات المفتوحة ألا نعرف بعضنا البعض؟ وكيف يمكن لطلاب جامعيين فى مجتمع منفتح يبدو أنه يقدس الحرية والإبداع والاختلاف، أن يكون من اهتمام طلابه رضا الأستاذ عن طول الإجابة فى الامتحان.
وفكرت ربما السبب أن الجامعة صغيرة فى مدينة صغيرة وهو ما يجعل طلابها مختلفين عن طلاب الجامعات الكبرى، والذين لابد وأن تكون اهتماماتهم تتعلق بالعلم والمعرفة وليس بالامتحان النهائى. ولكن عدد الجامعات الكبرى فى الولايات المتحدة لا يتجاوز فى حقيقة الأمر مائة جامعة فى مختلف التخصصات، بينما يصل عدد الجامعات متوسطة الحجم والصغيرة إلى الآلاف. فهناك جامعات حكومية وخاصة تقتصر شهرتها على مدينتها أو على الأكثر الولاية التى تتبعها، كما أن هذا العدد يضاف إليه آلاف أخرى إذا ضمّنا المعاهد العليا أو ما يطلق عليه community colleges، وهى مؤسسات تعليمية محلية تهدف لرفع كفاءة خريجى المدارس الثانوية فى مجالات مهنية معينة بما يمكنهم من تحسين فرصهم فى العمل.
•••
الحقيقة أن الاختلاف أو التشابه بين طلابى فى جامعة القاهرة وطلابى فى الجامعة الصغيرة القديمة لا يقتصر على موقفهم من الامتحان أو من العلم بشكل عام، ولم يبدأ مع سنوات الجامعة، بل يعود إلى النظام التأسيسى الأهم، أى سنوات التعليم ما قبل الجامعى. تذكرت من سنوات مضت حينما قضيت مع أولادى عاماً دراسياً كاملاً فى الولايات المتحدة، وكانوا ثلاثتهم فى التعليم الابتدائى والإعدادى والثانوى فى مدارس حكومية مجانية.
تذكرت ابنى الأصغر فى المدرسة الابتدائية وهو يحدثنى عن مناظرة أجراها المدرس فى الفصل بين طالبين مثل أحدهما أوباما والآخر ماكين (المرشحين الرئاسيين فى انتخابات 2008)، وقرأت بإعجاب خطابات سطرها الطلاب لأوباما بعدما وصل إلى الرئاسة يحدثونه فيها عن مطالبهم من الرئيس الجديد. واسترجعت ذكريات انتظارى للأوسط فى المدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسى لانشغاله بنشاط فى نادى العلوم، والذى كان يقوم عليه أستاذ العلوم متطوعا ومتبرعا ليساعد الطلاب فى اكتشاف مواهبهم وتوجهاتهم. وذكرتنى ابنتى الكبرى بموقف إحدى مدرساتها حينما عانت من الصدمة الحضارية المرتبطة بالاختلاف الثقافى، وكيف طلبت منها أن تكتب خطابا للفصل تحدثهم فيه عن خلفيتها الثقافية وما تعتبره مقبولاً فى إطار التعامل فى داخل المدرسة.
تذكرت كل هذا وأنا أقرأ عن اعتصام طلاب الجامعة الألمانية للمطالبة بحقهم الإنسانى فى أن يكون الحرم الجامعى أكثر أمنا. وأنا اقرأ عن مبادرات التعليم البديل التى يقوم بها طلاب فى جامعات مختلفة وتخصصات مختلفة. وأصبح السؤال أكثر تعقيدا وأصعب فى الإجابة. هل المشكلة فى الإمكانات فقط؟ ونقص عدد المدارس وقلة كفاءة القائمين على العملية التعليمية؟ أم غياب الإرادة السياسية والمجتمعية، التى ترى فى التعليم فلسفة تتعلق بالحياة وليس فقط بتحسين ظروف العمل؟ أم فى محاولاتنا البائسة لنقل «حكمة الكبار وعلمهم» لأجيال تعلم أكثر مما نعلم وامتحنتهم الحياة خلال السنوات الأربع الماضية بأصعب مما امتحنتنا؟ هل المشكلة أن طلابى فى جامعة القاهرة لا يروننى إلا فى داخل المحاضرة والمسافة النفسية والجغرافية محفوظة لصالحى؟ بينما طلابى فى الجامعة الصغيرة القديمة يروننى أغسل ملابسى فى غرفة الغسيل بجوارهم، ويرون أستاذهم الآخر يأتى إلى الجامعة بدراجته فى الصباح، وتشاركهم أستاذة ثالثة نشاطا مسرحيا يخرجه واحد منهم، فيوجهها كما يوجه زملاءه؟
•••
نحن نشهد ميلاد جيل جديد نحاول أن نقنعه أن يعيش فى ملابسنا ويفكر بطريقتنا ويحلم أحلامنا، وستذهب محاولاتنا هباء. فهذا جيل يمتلك القدرة على تجاوز الصور النمطية عن الآخر، وأن يختبر انحيازاته ليتراجع عنها، وأن يرى فى العالم مكانا أرحب من عوالمنا التقليدية الضيقة. قد تظل الفوارق فى السياسة والاقتصاد موجودة بين جامعات «العالم الأول» وجامعات «العالم الثالث» ولكن طلاب العالمين سيكونون أكثر جرأة وقدرة على مواصلة الكفاح لأجل حياة أفضل للجميع.