هذه المقالة ليست عن الخيام التى ملأت ميدان التحرير خلال الاعتصامات العديدة، التى شكلت موجات الثورة المصرية التى انطلقت أولى موجاتها فى 25 يناير 2011، ولكنها عن خيمة أخرى فى اعتصام آخر، ولكنهما أيضا عن التحرير كمعنى، وليس كمكان.
منذ أعوام بعيدة، قدرها البعض بثلاثين عاما، استأجرت الجامعة الأمريكية بالقاهرة مزرعة بمديرية التحرير بمحافظة البحيرة. ومديرية التحرير لمن لا يعلم هى أحد المشروعات الزراعية العملاقة التى أنشأها عبدالناصر فى خمسينيات القرن الماضى كمحاولة من الدولة لتوسيع الرقعة الزراعية والخروج من الوادى الضيق. وكان الغرض من استئجار الجامعة الأمريكية لهذه المزرعة هو توفير الفرصة لكل من طلاب وأساتذة الجامعة لإجراء الأبحاث والدراسات العلمية والاجتماعية بالإضافة إلى أن هذه المزرعة تحولت تدريجيا لمصدر رئيس للمزروعات فى حرمى الجامعة (القديم بالتحرير، والجديد فى القاهرة الجديدة). وخلال ثلاثين عاما سارت الريح كما تشتهى السفن؛ مجتمع متكامل من عمال ومزارعين وأسر أنشأوا حياة جديدة فى مديرية التحرير، ومقر جامعة فى العاصمة يستفيد من وجود المزرعة على أكثر من مستوى، وحكومة تؤجر المكان وتستفيد من هذا الدخل للقيام بما يجب عليها القيام به. ولكن تغير اتجاه الريح. انتهى عقد الإيجار بين الحكومة والجامعة، فانتهى بالنسبة للجامعة مبرر الحفاظ على العمالة التى ارتبطت بهذا المشروع.
بعضهم يقدر أسباب انتهاء التعاقد لاعتبارات سياسية ترتبط بالتطورات الحالية فى العلاقات الأمريكية المصرية الأمريكية، وبعضهم يقدر أعداد المتضررين من هذا القرار بالمئات من العمال والفلاحين وأسرهم. ولكن الحقيقة تقع بين التقديرات المختلفة والمتضاربة للأسباب والأعداد. ما يهمنا فى هذا السياق هو إدارة الأزمة، والتى تحتاج منا إلى بعض التأمل.
فوجئ عدد من طلاب الجامعة الأمريكية وأساتذتها باعتصام فى قلب حرم الجامعة بالقاهرة الجديدة. هذا الحرم المعزول اجتماعيا وثقافيا عن القاهرة بمشكلاتها وزحامها، أصبح مقرا لعدد من الرجال الذين يظهر عليهم بوضوح عدم انتمائهم الطبقى والعلمى لهذا المكان الغارق فى عولمته ومدينيته. تفاصيل المفاوضات بين الإدارة والعاملين فى المزرعة ليست معلومة للجميع ولكن يمكن بقليل من الصبر الوصول لملامحها العريضة. الإدارة لاعتبارات اقتصادية وإدارية وسياسية ترى ضرورة الاستغناء عن المزرعة بالعاملين فيها. والعاملون فى المزرعة يرون فيها حياتهم وماضيهم ومستقبل أولادهم، ولا يرون لأنفسهم وأسرهم مكانا غيرها. أين يقع الحق؟ وأين تقع الحقيقة؟ لست فى موضع يمتلك الإجابة عن مثل هذين التساؤلين، وإن كنت أعتقد أن كلا من الحق والحقيقة فى موضع ما بين موقف إدارة الجامعة والمعتصمين.
منظر خيمة اعتصام التحرير، فى قلب الحرم الجامعى وتفاعلات الطلاب والأساتذة معها هو ما يستدعى بالنسبة لى عددا من الملاحظات:
الملاحظة الأولى تتعلق بفكرة الحقوق والنضال المرتبط بها. يعرف البعض السياسة بأنها شكل من أشكال صراع الإرادات حول ما يراه أطراف هذا الصراع حقا. وتفترض الديمقراطية الحديثة اشكال محددة للتفاوض والتفاعل بين الأطراف المختلفة حول الحقوق. ومن ثم اختلف تعريف الاعتصام هل هو واحد من أساليب التعبئة والتفاوض التى تلجأ اليها قوى معينة للتعبير عن رأيها وتوصيل رسائلها لكل من صناع القرار والجمهور العادى حول عدالة مطالبها. ام الاعتصام هو واحد من اشكال الممارسة العنيفة على اعتبار انه يشغل المساحات العامة/الشارع بشكل يعطل الإنتاج والاستقرار ويهدد مصالح الاخرين؟ كيف ندافع عن حقنا أمام الآخرين؟ كيف نعرف الحق (بالشدة على الراء) وكيف ننظم النضال حوله؟ وماهى السبل المختلفة للتفاوض والضغط على صانع القرار. ما مصير اعتصام مثل هذا فى ظل غياب القدرة على التعبئة وعلى خلق رأى عام مؤثر مساند وفى ظل استمرار رؤية الإدارة لشكل علاقتها بالمعتصمين والمتضامنين معهم بشكل لا يبدو منه احتمال للتراجع عن إغلاق المزرعة.
الملاحظة الثانية تتعلق بسلمية التعبير وعلاقة هذا بتطور الموقف من فكرة السلمية فى مصر، فى ظل احكام البراءة التى صدرت مؤخرا فى مصر بحق الرئيس المخلوع ووزير داخليته ومساعديه من تهم قتل المتظاهرين فى موجة الثورة الأولى. ظهرت على السطح مراجعات لفكرة السلمية والتى اعتمدت عليها القوى السياسية المختلفة المرتبطة بالثورة لتجميع الصفوف فى مواجهة نظام اعتاد القمع والسحل للمخالفين. يبدو اعتصام مزرعة التحرير شديد السلمية، فأعضاؤه رجال بين العشرين والستين، تراهم دائما جالسين حول الخيمة يتجاذبون أطراف الحديث مع بعضهم أو مع المارين عليهم من الطلاب أو الأساتذة أو الصحفيين القلائل الذين اهتموا بتغطية الحدث. يبدو أن هناك مفاوضات تجرى بين الأطراف المتأثرة والمؤثرة فى الموضوع، السؤال الملح فى سياق هذا الاعتصام وفى سياق مطالبات حقوقية أخرى، ماذا لو فشل التفاوض وماذا لو فشل الاعتصام كوسيلة ضغط فى التفاوض؟ هل هناك أدوات «سلمية» أخرى يمكنها تجميع المطالب والتعبير عنها والضغط لصالحها؟ أم أن «السلمية» ماتت حينما انغلقت مسارات التواصل والتفاوض والعمل للوصول إلى توافقات تحمل تنازلات وتحمى حقوق.
الملاحظة الثالثة ترتبط بتفاعل المجتمع الأوسع مع مطالب المعتصمين والتضامن معها على مستوى الطلبة والأساتذة. ففى الوقت الذى يبدو فيه المجتمع الأكبر فى مصر غير متقبل أو متسامح مع فكرة الاعتصام أو التظاهر، فهناك حالة من التعايش السلمى والقبول الضمنى بالمعتصمين فى قلب الحرم الجامعى. لا يمكن بطبيعة الحال افتراض أن هذا التعايش أو القبول يعنى التضامن التلقائى مع المعتصمين. فهناك من يدافع عن موقف الإدارة وهناك من لا يهتم من حيث المبدأ بالقضية ويرى أنها لا تخصه من قريب أو من بعيد وهناك من يتعاطف مهم على مستوى إنسانى وهناك بطبيعة الحال المؤيدون لموقفهم، والذين يحاولون التعبير عنه بمختلف الطرق. هذا التنوع فى المواقف من المعتصمين ومطالبهم لا يمكننا أن نفترض وجوده بنفس الدرجة فى المجتمع المصرى حاليا. فهناك إحساس عام لدى قطاع من الشعب (أزعم انه الأكبر) يرى فى التظاهر والاعتصام بغض النظر عن الأسباب تعطيلا للدولة وتهديدا للأمن. السؤال هنا كيف يمكننا تلمس أسباب هذا الاختلاف؟ هل مستوى التعليم يؤثر أم الطبقة الاجتماعية؟ أم وضوح المطالب؟ أم سلمية التعبير؟ أم موقف السلطة ومتخذى القرار؟ أم الثقافة السياسية للمجتمع الصغير والكبير؟ أم كل ما سبق؟
•••
ماذا يقول هذا عن مستقبل التفاعلات المدنية المرتبطة بمطالبات اجتماعية/اقتصادية فى مصر، يعتقد الكثيرون أن مسار التحولات السياسية المصرية الحالية لا تنبئ بتحول ديمقراطى على المدى القريب أو المتوسط. فهناك حالة من الاستقطاب والعنف الموجه من الدولة ضد معارضيها، ودرجات متعاظمة من العنف المجتمعى. بالإضافة إلى درجة عالية من غياب الثقة سواء على مستوى القيم الديمقراطية أو فى النخب السياسية والفكرية الموجودة. بعبارة أخرى يبدو أن امامنا طريق طويل للتحول الديمقراطى فضلا عن تثبيت التجربة الديمقراطية برمتها. وبالرغم من الإحباط المرتبط بهذه النتيجة خاصة بعد حالة التثوير التى مر بها المصريون منذ 2011؛ فإن إدراك صعوبة التحول ومعوقاته مسألة مهمة وسابقة لإدراك كيفية التعامل مع هذه الصعوبات والمعوقات. دلالة اعتصام مزرعة التحرير ليست فى التداعيات التى يمكن أن يحدثها على المشهد السياسى العام، فهو أمر لن يحدث، ولكن دلالته الحقيقية فى قدرته مع تحولات أخرى تحدث فى مجالات متعددة، على تجذير مفاهيم تتعلق بمشروعية المطالب الاقتصادية والاجتماعية وضرورة أن تدرك السلطة وصانعى القرار أن عصرا جديدا يتشكل، وأن مقاومته لن تجهضه وإن رفعت تكلفته.
بعد تسليم هذا المقال بلغنى أنه فى نهار يوم 8 ديسمبر 2014 غادر المعتصمون حرم الجامعة الأمريكية فى القاهرة الجديدة، وحينما حاولت الاستفسار حول الظروف التى أدت إلى إنهاء الاعتصام، علمت أنه نتيجة عدم قدرة المعتصمين على التوصل إلى حل، فقد تم الاتفاق على تعليق الاعتصام ومواصلة المفاوضات مع الإدارة، على أن يتولى طلاب الجامعة الأمريكية متابعة هذه المفاوضات إلى الوصول إلى حل يحقق مصالح الأطراف المختلفة.