«يبدو أن المؤامرة تحيط بنا من كل جانب وعلى كل مستوى، ويبدو أننا ضحايا لها فى كل وقت، العالم من حولنا يتآمر علينا ولا يريد لنا خيرا.. حتى أجندة البحث العلمى يبدو أنها جزء من مؤامرة كبرى على هويتنا أو حاضرنا أو مستقبلنا». هل تبدو هذه الجملة مألوفة؟ بالنسبة لى على الأقل اسمعها بشكل متكرر ودائم. ولذا قررت أن أقرأ قليلا عن الموضوع. تنقسم الكتابات العلمية عن موضوع المؤامرة إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية. الأول يرى فيها ظاهرة تسود فى دول العالم الثالث لانتشار التفكير القدرى غير العلمى. والثانى يرى فيها قدرة تفسيرية معينة وإن لم تصل لدرجة النظرية المتكاملة القادرة على تقديم تفسير متماسك لكافة جوانب الظاهرة الاجتماعية أو السياسية. والثالث يرفع أفكارها إلى كونها النظرية (بتعريفها بالألف واللام) القادرة على تقديم تفسير متماسك خاصة فى مجال العلاقات الدولية.
•••
ترى الكتابات الرافضة لفكرة/نظرية المؤامرة أن هناك عدد من الافتراضات الحاكمة؛ أولها أن هناك شخصا أو اشخاصا، قوة سياسية أو اقتصادية، جماعة أو مؤسسة، دولة أو إقليما ما له أفضلية على ما عداه من اشخاص أو قوى أو جماعات أو دول. ويمتلك مقومات للنجاح والتأثير فيمن وفيما حوله بشكل يهدد توازنات للقوى موجودة بالفعل. الافتراض الثانى يتعلق بالآخر سواء كان شخصا أو قوى أو جماعة أو دولة أو إقليما والذى فى محاولته للحفاظ على التوازنات الموجودة يتآمر بشكل دائم ومستمر لإفشال الطرف الأول. فى واقع الأمر فإن هذين الافتراضين يبدوان كمسلمتين أكثر من كونهما افتراضين علميين. ففى هذا الكون الفسيح هناك كيانات تمتلك مقومات للتأثير فيمن حولها، وهناك كيانات أخرى لا تتسامح مع هذه المحاولات وترغب فى الحفاظ على الوضع القائم. الافتراض الثالث هو أن أى فشل للطرف الأول إنما هو سبب لتآمر الأطراف الأخرى عليه. لا تبرير للفشل فى اتخاذ قرار أو تنفيذ سياسة إلا تآمر الآخرين. ولا سبيل للنجاح إلا إذا توقفت المؤامرة وهو أمر بطبيعة الحال لن يحدث، ومن ثم يمكن توقع النتيجة؛ الجميع يكرهوننا ويبذلون جهدا فى إفشال محاولتنا للتقدم وهو ما يفسر عجزنا وتأخرنا بالرغم من كل مقومات النجاح التى نمتلكها. النظرية بهذا الشكل تستحق الهجوم عليها من قبل الباحثين فى الظواهر الاجتماعية على اعتبار أنها فى حقيقة الأمر تخالف النظريات العلمية لكونها تبدأ من يقينيات وقناعات لا سبيل لاختبار صحتها، كما أنها لطالما استخدمت ستارا لتبرير الفشل من قبل الحكومات. ويرى هؤلاء الباحثون أن استخدام نظرية المؤامرة يزيد فيما اسموه «المجتمعات القدرية» أى المجتمعات التى ترى فى القدر تفسيرا لكل الأشياء؛ فالنجاح مقدور كما الفشل، ولا يمكننا تغييره.
•••
ثم وقعت تحت يدى ورقة كتبها جون اندرسون الباحث الأمريكى ونشرت فى مجلة الدراسات العربية فى عام 1996 تحتفى فى حقيقة الأمر بنظرية المؤامرة؛ ليس انطلاقا من قدرتها على تفسير النجاح والفشل فى حالات معينة ولكن انطلاقا من كونها واحدة من النظريات التى لم تحظ بالبحث الكاف فى ذاتها. يرى اندرسون أن نظرية المؤامرة لا تعترف بالصدفة، وإنما تقوم على افتراض وجود مجموعات بعينها قادرة على التحرك فى الخفاء لحماية مصالحها فى منطقة أو قضية بعينها. وبالتالى فالنظرية، وفقا له، تعلى من قدر الفاعلين agents الذين قد لا نعلمهم بالضرورة ولكنها تنفى القدرية التى يلصقها بها منتقدوها. ويرى أيضا أن النظرية يتم اللجوء إليها حال ندرة المعلومات، وهى بهذا محمودة من حيث قدرتها على محاولة توفير المعلومات من خلال قراءة الصورة الأكبر للمشهد، ومحاولة اكتشاف العلاقات والتشابكات بين الأطراف المختلفة فى الظاهرة محل الدراسة. بهذا المعنى تصبح نظرية المؤامرة محاولة بشرية لاستكمال الناقص من المشهد، ولإعطاء معنى للمعلومات المتشرذمة أو غير المترابطة، أو غير الموجودة أصلا.
•••
النقطة الأخيرة تحتاج لمزيد من التفصيل وتساهم فى توضيح لماذا يزيد استخدام فكرة /نظرية المؤامرة فى مجتمعاتنا. فبعيدا عن صفات القدرية التى تغلب على الثقافة العربية/الإسلامية، وتساهم إلى حد كبير فى تقييد حرية التفكير والابداع (ولكن هذا موضوع اخر ويطول النقاش حوله) فعلاقة نظرية المؤامرة بنقص أو ندرة المعلومات هو أمر مهم. وقد أصدرت الأمم المتحدة فى عام 1946 قرار رقم 59، والذى نص على أن «حرية الوصول إلى المعلومات حق أساسى للإنسان وأنها محك جميع الحقوق التى كرست الأمم المتحدة لها نفسها». بمقتضى هذا النص يصبح من حق الإنسان بغض النظر عن لونه أو جنسه أو طبقته الاجتماعية أو مستواه التعليمى أو ديانته التى يعتنقها، الحصول على المعلومات التى يراها ذات صلة بالقرارات التى عليه اتخاذها فى حياته. بطبيعة الحال فإن هذا النص لا يعنى تطبيقا أوتوماتيكيا له، فالعالم من حولنا ملىء بالبشر العاجزين أو غير الراغبين أو غير القادرين على الحصول على المعلومات الكاملة اللازمة لاتخاذ قرارات بعينها.
غياب المعلومات أو ما يطلق عليه فى العلوم السياسية بغياب الشفافية هو فى حقيقة الامر ما يعطى نظرية المؤامرة قوتها فى مجتمعاتنا. فلا يمكن للمواطن ان يعيش فى ظل غياب للمعنى القادر على تفسير القرارات والسياسات والتحالفات المتغيرة التى تحدث بشكل متسارع من حوله. ومن ثم يلجأ للتفسير الذى يتضمن وجود قوى غير معلومة بالنسبة له لكنها قادرة على الدفاع عن مصالحها بشكل يفسر كل هذا الجنون المحيط. فتحديد المسئول عن قتل المتظاهرين خلال السنوات الماضية، أو تحديد المسئول عن استمرار قطع الكهرباء، أو ارتفاع الأسعار، أو انهيار الامن فى الشارع، أو حتى انتشار الأفلام رديئة المستوى والمعنى هو جزء من مؤامرة كبرى قد لا نعرف مخططيها أو منفذيها ولكننا نرى آثار افعالهم حولنا. وكأن هذه النظرية تقدم لنا إجابات تبدو منطقية، وإن لم تكن كاملة.
•••
ما يمكن قبوله على مستوى المواطنين العاديين لا يمكن قبوله بالطبع على مستوى صانعى القرار سواء فى داخل المؤسسات أو على مستوى الدولة. فلا يمكن للمسئول أن يعتذر بغياب أو نقص المعلومات عند اتخاذ قرار، ومن ثم فيفترض فى صانع القرار ومتخذه أن تتوفر لديه المعلومات الكافية واللازمة لاتخاذ قرار ما. كما أنه لا يجوز له أن يبرر فشلا ما بوجود مؤامرة داخلية أو خارجية، بل لابد له أن يقوم بمراجعة دقيقة وشاملة للقرار وآليات تنفيذه ومراحله، وأن يكتشف موضع التقصير أو الخطأ ويحاسب المقصرين. قد يكون التقصير فى العوامل الخارجية المحيطة بالقرار، أو فى عدم الدراسة الكافية للبيئة المحيطة بالقرار سواء داخليا أو خارجيا، أو فى عدد لا نهائى من الاحتمالات، لكن المؤكد أنه لا يمكن لصانع القرار أن يتحجج بوجود مؤامرة لتبرير الفشل بشكل دائم ومستمر. المؤامرة موجودة حولنا، ولكن هذا لا يبرر تصورنا أن هناك قوى فى هذا العالم تستيقظ كل صباح لتتآمر علينا، أكيد القوى ديه عندها حد ثان أو حاجة ثانية يتآمرون عليها غيرنا.