فى غير موضع قرآنى كريم، يوجه المولى، تبارك وتعالى، عباده المؤمنين، صوب التماس المسالك الكفيلة ببلوغ «القلب السليم». كونه السبيل، الأمثل والأوحد، لنيل رضوان ربهم والفوز بجناته. حيث يقول، تجلت حكمته، فى الآية التاسعة والثمانين، من سورة الشعراء: «يوم لا ينفع مال ولا بنون إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ». ويقول، جل شأنه، فى الآية الرابعة والثمانين، من سورة الصافات، مُثنيا على خليله، إبراهيم، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم: «إذ جاء ربه بقلب سليم».
يُعرَف الإمام، ابن القيم الجوزيه، رحمه الله، فى مؤلفه المعنون: «الجواب الكافى»، «القلب السليم»، بالذى نجا من الشرك، والغل، والحقد، والحسد، والشح، والكبر، وحب الدنيا والرئاسة. فسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره. وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطع عن الله. ولا تتم للقلب سلامته، حتى يسلم من خمسة أشياء، تحجبه عن الله، وهى: شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص. ثم يسهب فى سفره الماتع: «إغاثة اللهفان» بالقول: «القلب السليم»، «هو الذى سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره. فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، فسلم فى محبة الله، مع تحكيمه لرسوله فى خوفه ورجائه، والتوكل عليه والإنابة إليه، والتذلل له، وإيثار مرضاته فى كل حال، والنأى عن سخطه بكل طريق. وتلك حقيقة العبودية، التى لا تتأتى إلا لله دون سواه».
بين ثنايا كتابه المعنون: «مفتاح السعادة»، يقول، ابن القيم، كذلك: «الْقلبُ السَّلِيمُ الَّذِى ينجو من عَذَاب الله، هُوَ الْقلبُ الَّذِى قد سَلِمَ لرَبه وَسلم لأمره، وَلم تبْق فِيهِ مُنَازعَة لأمره وَلَا مُعَارضَة لخبره. فَهُوَ سليم مِمَّا سوى الله، وَأمره لَا يُرِيد الا الله، وَلَا يفعل إِلَّا مَا أمره الله. فَالله وَحده غَايَته وأمره، وشرعه وسيلته وطريقته. لَا تعترضه شُبْهَة تحول بَينه وَبَين تَصْدِيق خَبره. لَكِن لَا تمر عَلَيْهِ إِلَّا وَهِى مجتازة، تعلم أنه لَا قَرَار لَهَا فِيهِ، وَلَا شَهْوَة تحول بَينه وَبَين مُتَابعَة رِضَاهُ. وَمَتى كَانَ الْقلب كَذَلِك فَهُوَ سليم من الشّرك، وسليم من الْبدع، وسليم من الغى، وسليم من الْبَاطِل».
أما الإمام القرطبى، رحمه الله، فيعرف «القلب السليم»، بأنه: «المُبرأ من الشرك والشك». بينما يعرفه العلامة، بن كثير، رحمه الله، بأنه: «السليم من الشرك والشك، والعامر بشهادة التوحيد».
لما كان الإيمان ينطوى على قول، وعمل، ونية. فقد ارتبط صلاح العمل وفساده بصلاح القلب وفساده. ويؤثر صلاح الباطن فى صلاح الظاهر، وكلما تفاقم صلاح الباطن، تعاظم صلاح الظاهر. ففى حديث، أبى هريرة، رضى الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ». رواه مسلم. وعن النعمان بن بشير، رضى الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس. فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه. ومن وقع فى الشبهات، وقع فى الحرام. كالراعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه. ألا وإن لكل ملك حمى. ألا، وإن حمى الله محارمه. ألا، وإن فى الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله. وإذا فسدت فسد الجسد كله. ألا، وهى القلب». «متفق عليه».
ويقول صلى الله عليه وسلم أيضا: «التَّقْوَى هَاهُنَا»،ويشير إلى صدره، الكريم، ثلاث مرات. وقد كان، خامس الخلفاء الراشدين، عمر بن عبدالعزيز، يقول: «أصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم». وكذلك قال: «لا ينفع القلب إلا ما خرج من القلب». ويقول الحافظ بن رجب: «إن القوم إذا صلحت قلوبهم، فلم يبقَ فيها إرادة لغير الله عز وجل، صلحت جوارحهم، فلم تتحرك إلا لله الخالق، وبما فيه رضاه. ويلزم من صلاح حركات القلب، صلاح حركات الجوارح».
ويقول تعالى فى الآية الرابعة والعشرين من سورة الأنفال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ». وفى تفسيرها، يذهب الراسخون فى العلم، إلى أن الله يحول بين المؤمن وبين الكفر، كما بين الكافر وبين الإيمان. ويحول، سبحانه وتعالى، بين الإنسان وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه. وأنه، تعالى، قريب من قلب عبده، بحيث لا يخفى عليه شىء أظهره أو أسره. وفى حديث أبى هريرة، عن النبى ﷺ، أنه قال: «يدخل الجنةَ أقوامٌ أفئدتهم مثل أفئدة الطير». رواه مسلم. وفى تفسير الحديث، تمضى ثلاثة أقوال: أولها، أنهم يتوكلون على الله حق التوكل. وثانيها،أنهم أصحاب قلوب رقيقة، لا تعرف قساوة أو صلابة. وأما ثالثها، فقلوبهم رقيقة وجلة؛ لشدة خوفهم من ربهم. شأنهم شأن الطيور، كثيرة الفزع والخوف.
حرى بالمسلم الانشغال بصلاح قلبه. فيتفقده ما بقى حيا، ويتجنب ما قد يعرض له من المفسدات، سواء أكانت من الشبهات أم من الشهوات؛ ذلك أن القلب إذا صلح، تبعته سائر أعضاء البدن.
وحتى يتبلغ منزلة «القلب السليم»، يتعين على المؤمن، توسل مسالك شتى، منها: إخلاص العمل لله وحده. والرضا عنه، عبر القبول بما قدره له وقضاه. وفى هذا، أورد، ابن القيم، فى مؤلفه «مدارج السالكين»: «وَتَسْتَحِيلُ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مَعَ السُّخْطِ وَعَدَمِ الرِّضَا. وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَشَدَّ رِضا كَانَ قَلْبُهُ أَسْلَمَ». وتعد المداومة على تلاوة القرآن، أعظم دواء لأمراض القلوب. إذ يقول، تقدست أسماؤه، فى الآية السابعة والخمسين من سورة يونس: «يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ». وفى الآية الثانية والثمانين من سورة الإسراء: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين».
يجدر بالمسلم التزام التضرع إلى الله تعالى، راجيا منه القلب السليم. وفى الدعاء المأثور: «اللهم إنى أسألك قلبا سليما، ولسانا صادقا». رواه الطبرانى وغيره، وصححه الألبانى. ومن صفات عباد الرحمن، الدعاء بسلامة القلب، إذ قال تعالى فى الآية العاشرة من سورة الحشر: «وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ».
ويقول، عز من قائل، عن ضراعة عباده من أولى النهى، فى الآية الثامنة من سورة آل عمران: «رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ». وكان من دعاء النبى المجتبى صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ»؛ رواه مسلم. وكان صلوات الله وسلامه عليه، يعلِّم أصحابه، رضوان الله عليهم، دعاء: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ... قَلْبا سَلِيما، وَأَسْأَلُكَ لِسَانا صَادِقا»؛ رواه أحمد. وهنالك، تبرز أهمية ذكر الله تعالى، ففى الحديث، المتفق عليه، عن أبى موسى الأشعرى، رضى الله عنه، أنه قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: «مثل الذى يذكر ربه، والذى لا يذكره، كمثل الحى والميت».
لئن كان ربنا، جل فى علاه، قد عهد إلى عباده المؤمنين، ابتغاء «القلب السليم» فى الحياة الدنيا؛ فإنه، بواسع كرمه، يمن به عليهم فى روضات جناته بالحياة الآخرة. حيث يقول تعالى، فى الآية السابعة والأربعين من سورة الحجر، عن تطهيره قلوب أصحاب النعيم المقيم: «وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِين».