لقد غلبت روح التدين على المصرى القديم منذ بدايات وجود الإنسان المصرى على أرض مصر الطيبة. وكانت الحيوانات بأنواعها المختلفة تشاركه بيئته الفسيحة المليئة بكل الكائنات. ولم تكن لديه القدرة للسيطرة عليها. وأدرك المصرى القديم مع الوقت أن لهذه الحيوانات قدرة عظيمة أكبر من قدرته هو ذاته. ومن هنا، امتد التقديس والحب والتبجيل لهذه الحيوانات خوفا منها نظرا لما لها من قدرة وقوة أكبر من قدرته وقوته، فمال إلى تقديسها اتقاء لبطشها وتهدئة لها ودرءا لشرها ورغبة فى الاحتماء بها وبقوتها من الكائنات والظواهر الأخرى المحيطة به والتى تفوق قدرته المحدودة. ولا يمكننا أن ننسى إعجاب الإنسان المصرى بقوة الحيوانات الخارقة التى كان يفتقر إليها. وامتازت تلك الحيوانات بقدرتها على إمداد المصرى القديم بقدر كبير من الخيرات التى كانت تجلبها له مثل الألبان واللحوم التى كان يقتات عليها والجلود التى كانت تقيه من قسوة البرد فى الشتاء، فنشأ بين المصرى القديم وتلك الحيوانات نوع غير محدود من الألفة غير المعلنة، فأسبغ عليها بالغ القداسة والاهتمام والتبجيل؛ نظرا لما تقدمه له من عطاء وفير وحب وتضحية.
ولا شك أن موضوع تقديس الحيوان فى مصر القديمة من أكثر الأمور التى كانت ولا تزال محل جدل ومثار عجب ودهشة لدى البعض قديما وحديثا، وكان أبرزهم أبو التاريخ أو أبو الأكاذيب المؤرخ الإغريقى الأشهر هيرودوت. واعتقد بعض العلماء أن المصريين القدماء عبدوا الحيوانات وجعلوها آلهة معينة ذات رموز خاصة، ورفض بعضهم هذا الرأى بشدة.
وكان تقديس الحيوان معروفا فى مصر منذ أقدم العصور، واختفى مع الوقت لكن صار التقديس نوعا من الاحترام وكتقليد متوارث منذ القدم إلى العصور التاريخية. غير أن السبب الأهم فى احترام وتقديس الحيوان فى مصر القديمة والدافع من وراء عبادته يرجع، أغلب الظن، إلى أن المصرى القديم قدس الروح السامية الكامنة فى الحيوان، وليس الحيوان ذاته، ولم يقدس كل أنواع الحيوان، كما يحدث فى الهند من تقديس لجميع أنواع الأبقار، وإنما كان الاختيار يقع على نوع محدد من الحيوان. ولم يكن يتم تقديس كل الحيوانات من تماسيح وأبقار وكباش وصقور وغيرها. وإنما كان اختيار الحيوان المحدد يتم عن طريق مجموعة من العلماء فى «بر عنخ» أو «بيت الحياة»، مكان العلم والعلماء الموجود فى المعابد فى مصر القديمة. ومتى تم توافر الشروط المطلوبة بدقة فى ذلك الحيوان، فيتم الإعلان عن اختيار ذلك الحيوان المقدس، وتُقام الاحتفالات العظيمة فى المعبد الخاص بالإله. وعندما يموت هذا الحيوان المقدس، يتم تحنيطه ودفنه فى موكب عظيم.
وكان الحيوان وسيطا بين الإنسان المصرى القديم وبين الإله الذى كان يرمز إليه ذلك النوع من الحيوانات. وكانت قدرة المعبود تتجلى فى هذا الرمز الحيوانى. وتحول الأمر إلى نوع من القداسة التى وقرت روح الحيوان، لا الحيوان ذاته. وكانت روح المعبود تتجلى فى ذلك الحيوان أو هذا الطائر أو فى أى من الزواحف. وفى هذا ما يوضح ترفع الإله وتجرده عن الحالة المادية واختفاءه عن الأنظار، وتنزه الإله وارتفاعه إلى مرتبة عليا من السمو والتنزه عن الماديات الملموسة إلى العالم السماوى اللامادى حيث السمو بالذات إلى ملكوت التجرد عن كل الصفات الأرضية. وجاء هذا الاحترام من تقديس روح الإله الموجود فى الحيوان، وليس فى روح الحيوان. وكانت الحيوانات المنزلية تنال قدرا كبيرا من عطف ورعاية المصرى القديم فى محيط الأسرة المصرية باعتبارها تمثل أرواحا طيبة فى محيط بيت الأسرة.
ومال البعض إلى اعتبار عبادة الحيوان فى مصر القديمة دخيلة على المجتمع المصرى القديم، وإنما حدثت فى عصور الاحتلال والاضطهاد الدينى والسياسى، وفى العصور المتأخر من تاريخ مصر القديمة، خصوصا فى العصور اليونانية ــ الرومانية.
وتم تصوير الحيوانات المقدسة فى هيئات مزجت مزجا بارعا بين الحيوان والإنسان، فنراها تظهر فى هيئات نصف آدمية بجسد إنسان ورأس حيوان. وكان فى هذا محاولة من المصريين القدماء إلى تقريب الصورة إلى الأذهان. وتم إطلاق اسم «أرواح المعبودات» على هذه المعبودات المقدسة. وأطلق المصريون القدماء أسماء إلهية جديدة على الحيوانات المختارة بعناية فائقة لتمثل المعبود، فنرى الصقر يُطلق عليه اسم «حورس» وليس «بيك» بمعنى «الصقر» اسمه فى اللغة المصرية القديمة. وأُطلق على البقرة «حتحور»، وليس «إيحت»، وأطلق على التمساح لقب الرب «سوبك»، وليس «مسح»، معناه فى مصر القديمة. وأصبح الكبش يأخذ اسم «آمون» أو «خنوم»، وليس «با». وتم تصوير العجل «أبيس»، روح المعبود بتاح، فى شكل حيوانى خالص. ولماذا اختار المصرى القديم هذه الحيوانات؟ لقد أخذ المصرى القديم من البقرة قدرتها على الحنو على وليدها، ومن الكبش قدرته على الخصوبة والإنجاب، ومن الصقر بعده وارتفاعه فى السماء، مما جعل من هذه الحيوانات أرواحا إلهية تكمن داخل معبوداتها.
وتم تقديس الحيوان بدافع الرهبة والرغبة فى اتقاء شره، والنفع منه والإفادة من خيره. ولعبت المصادفة دورها فى اختيار الحيوان بسبب صفة ما تميزه عن بقية جنسه أو ربما لارتباطه بمسكن الحيوان الذى ربما كان فيه ما ينفع الناس. وكان فى اختيار الحيوان تجدد لقوى الآلهة. وتعددت أشكال الإله. وكان من بينها تمثيل المعبود فى هيئة حيوانية خالصة أو حيوانية آدمية.
وفى النهاية، أقول إن المصريين القدماء لم يقدسوا أو يعبدوا الحيوان لذاته، ولكنهم قد وجد فى الحيوان قوة إلهية علوية تمثلت فى روح الرب الذى كان يرمز له. وكان فى هذا تفكير عظيم من المصريين القدماء. وعبروا عن فكرهم الراقى من خلال عدد كبير من الأفكار الفلسفية بشكل يقرب أفكارهم الراقية إلى أذهان البسطاء، غير أن الإغريق عندما زاروا مصر، لم يفطنوا إلى فلسفة العقيدة والتعبد لدى المصرى القديم. وأشاعوا أن المصرى القديم قد عبد الحيوان الذى لم يكن له وجود فى معتقداتهم. ومع الوقت، زالت الغشاوة وعرف العالم سحر ولغز تقديس الحيوان فى مصر القديمة التى علمت العالم كله.