أم حسن والرجولة الهشة - جيهان أبو زيد - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 7:47 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أم حسن والرجولة الهشة

نشر فى : الثلاثاء 3 مايو 2022 - 7:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 3 مايو 2022 - 7:25 م

بعثت لنا كما لكل الجيران بعلبة حلوى صغيرة يعلوها صورة لطفل ضاحك مصحوبة بـ (نورت الدنيا يا حسن) ومذيلة بتوقيع «أم حسن». منذ ذاك اليوم تغير اسم السيدة ليلى جارتنا المهندسة صاحبة مصنع الكارتون إلى «أم حسن»، وقبل إنجاب حسن كانت قد رزقت بثلاث بنات لكن أى منهن لم تستحق إرسال حلوى للجيران أو استقبال احتفالى هائل كذلك الذى شهده حسن فى يومه السابع، تغيرت بوصلة الحياة فى منزل جارتنا وبات حسن فى منتصف الأحداث بل صار هو صانع الأحداث وبناء عليه تتخذ القرارات. والذى حدث أن صار حسن هو المرئى الوحيد فى الأسرة.
ولا عجب فى استحقاق حسن لهذا الاحتفاء الاستثنائى فهو الوليد الذكر الذى سيُبقى للعائلة أثرا فى التاريخ البشرى، وهو حامى الحمى إذا ما هاجم الغزاة وهو صاحب الصوت الخشن الذى يوحى بالصلابة والجلد وهو العصبى النزق الذى لا يخاف المغامرة ويفهم جيدا أسرار الحياة وخباياها، حسن هو السند للأم والأخوات الإناث وهو الفائز بلا شك فى كل معركة تفرضها الحياة، ورغم تعثره المتكرر لم يفقد حسن مكانته فى العائلة بل ازداد تسلطا وعنفا كلما ازدادت هشاشته.
يُلقى مسلسل «فاتن أمل حربى» الضوء على الرجولة الهشة التى تخلفها الثقافة الراهنة، فيرسم صورة نعرفها جميعا للرجل ــ سيف الدندراوى ــ الذى كبر مدللا محاطا برعاية أم ظنت أن ذكورته كافية لتصنع منه إنسانا رجلا، فلم يتعرف فى مسيرة نموه على كيفية مواجهة المشكلات، ولم يتعلم العطاء بل أدمن الأخذ، وحين كوّن أسرة، أشارت عليه الثقافة على لسان أمه أن القسوة والعنف هما علامة الرجولة.
ظلمت أم حسن ابنها الوحيد كما ظلمت السيدة نظيمة ابنها سيف، فقد اتكأت كلتاهما على صورة متوارثة عن الرجل وسعيا إلى تشكيل هذا الطفل الذكر ليكون طبقا لصورة توارثتاها بدون الوقوف لوهلة أمام فيض الخسائر التى يتطلبها إعادة إنتاج الصورة، وفى السعى للتعرف على النماذج التى تنتجها التنشئة الاجتماعية ميزت عالمة الاجتماع الأسترالية رايوين كانل Raewyn Connell بين نماذج أربعة من الرجولة تصنعها الثقافة وتبدأ بما أسمته بالرجولة المهُيمنِة، فيها يتم تدريب الذكور على قواعد الهيمنة الذكورية والتسلط خاصة على النساء وعلى كل من يعتبر أقل شأنا، وتتطلب امتلاك وظيفة بارزة وسند مالى، الأمر الذى يطعن الرجولة فى مقتل ــ لدى تلك الفئة ــ إذا ما خسروا المال أو العمل.
والنوع الثانى من الرجولة هو الرجولة المتواطئة والتى تضم الرجال غير القادرين على بلوغ مسببات السلطة لكنهم يدعمون الثقافة الحامية لتفوق الرجل، فهؤلاء وإن لم يمتلكوا أدوات للهيمنة والسلطة على المستوى العام فإنهم يملكون أدوات وفرتها القوانين غير المنصفة ووفرتها السياسات والممارسات الثقافية اليومية.
ثم يأتى النوع الثالث وهو ما أسمته الباحثة بالرجولة المهُمَشّة التى تضم الرجال من الفئات الاجتماعية المهمشة لأسباب عرقية أو سياسية أو حتى لأسباب صحية كالإعاقة، يعانى هؤلاء صراعا حادا بين العيش فى منظومة عامة تحتفى بالذكور لكنهم ولأسباب ما منسيون يلتقطون من هنا ومن هناك ترحيبا بذكورتهم لكنهم لا يملكون فعليا القدرة على تحويلها إلى مكسب ملموس يُغير مكانتهم ويوقف تهميشهم، وفى بحثهم عن التوازن يُعَنّفون النساء والأطفال وكل من يظنون فيه ضعفا. وأخيرا النوع الرابع والذى أسمته الرجولة المستضعفة وفيه ضمت الرجال الذين يعانون من ارتباك هرمونى.
ما الذى يجمع إذن بين النماذج الأربع التى صنفتهم الباحثة الأسترالية؟ يجمع بينهم الهشاشة، فالنماذج الأربع تسكن تحت سقف ثقافة عامة محملة برسائل ملغمة تضرب فى إنسانية الرجال وتضرب فى كرامة النساء. الثقافة التى تظلل الجميع تفيد بأن الذكر جنس مُفضّل، ليكبر حاملا لوهم كاذب بالامتياز سرعان ما تكذبه وقائع الحياة ليقع أسير اليأس والإحباط ومن ثم ينفجر عنفا، والسماح بالعنف هو الرسالة الثانية التى تبعثها الثقافة، مسموح لكم بالقسوة والإيذاء، مسموح لكم تعبئة كرة الغضب لحدها الأقصى وتفجيره فى وجه الضحية الأولى، ثم تبعث الثقافة عبر الأسرة وعبر منصاتها المتعددة رسالة أخرى عن ارتباط الرجولة بالتفوق والسلطة؛ فالرجل يجب أن يصارع ليتفوق، أن يبنى العضلات ليظل الأقوى بنيانا الأقسى حضورا، تؤكد الثقافة على التراتبية مغذية مشاعر المنافسة والغيرة ومعززة للعنف والتهديد كأدوات ضرورية لتحقيق السيادة وامتلاك السلطة، ولأن السلطة تتطلب المهابة وحفظ المسافة اللازمة لتميز صاحب السلطة عن الآخرين ــ ونتذكر جميعا سى السيد وأمثاله ــ فإنها تعنى أيضا الوحدة أو البقاء فى جماعات صغيرة تغذى بعضها بعضا لكنها غير قادرة على التفاعل مع مكونات المجتمع الأخرى.
ما لم تستعرضه الباحثة هى جماعة الرجال التى تُعلى المبادئ ولديها الكثير من الرحمة وتبحث عن العدالة وتملك جرأة الاعتراف بالخطأ ولديها القدرة على الاعتذار، بيننا جماعة من الرجال لا تخشى أن ينال كل البشر حقوقهم، ولا تحتاج إلى سلطة أو تسلط، بل هى أسعد وسط الجماعة وبهم، بيننا رجال لا تعتمد العنف سبيلا للتعامل مع الآخرين، رجال لا تحتاج إلى التدليل أو التفضيل الكاذب بل تجتهد لتترك أثرا نافعا. نحن بحاجة للتعرف على هؤلاء الأسوياء وللتعريف بهم، لتقديم صورة أخرى عن الرجل الإنسان الذى لا يصارع ولا ينشغل بالحروب، ولا يتستر خلف الإنكار ليخفى فشله، نعم يمكن للدراما أن تثور على ذاتها وأن تكف عن الترويج للرجولة الهشة.

جيهان أبو زيد باحثة بمركز جنيف للدراسات
التعليقات