قطعة القماش الرمادية، تعويذة الغضب والثأر التى لا تفارقنى، لو دُعِيَت إلى قمة المناخ بشرم الشيخ لكانت هى الحدث. أحملها معى من عقود، هى الدليل الحى على موت أبى، هى الذكرى الباقية منه، وهى التى كانت فى يده لحظة موته.
كنت أصغر كثيرا من الفهم، لكن طفلة الأعوام الخمسة شاهدت يده القابضة على قطعة القماش وهى ترتخى، فالتقطتُها قبل أن تلمس أقدام الحضور الذين انشغلوا فى النحيب.
قالت أمى إن أبى كان يختبر جودة القماش وقت أن هاجمته أزمة الربو، حمله زملائه سريعا ونقلوه إلى المنزل وهو يصارع الهواء الهارب من رئتيه، مر عقدان قبل أن أطرح السؤال وكيف لا توجد وحدة طبية فى مصنع يضم آلافا من البشر، ولماذا لم ينقل إلى المستشفى؟
قالت إن غبار النسيج والهواء الملوث بالوبر هو من قتله، لكأنما خشيَت أن توجه أصابع الاتهام إلى المنشأة التى استثمرت فى الماكينات ولم تستثمر فى صحة من يديرها، نعم أفادت إصدارات منظمة العمل الدولية أن صناعة الغزل والنسيج تُعرض العاملين فيها إلى نوعين من الأمراض الأول هو السحار، وهو مرض رئوى ينتج من التعرض للألياف الطبيعية وفى مقدمتها القطن والكتان والجوت أما الثانى فهو السحار القطنى والذى يسمى أيضا بتغبر الرئة وتراكم الغبار المعدنى بها. يتعامل العاملون فى قطاع النسيج مع ألياف طبيعية حيوانية كالصوف، وألياف نباتية كالقطن والكتان فضلا عن الألياف الكيميائية مثل البوليستر، البولى أميد والبوليبر، والألياف المتجددة مثل السليولوز.
وأكدت الدراسات أن المصادر الرئيسية للتلوث فى الصناعات النسيجية، هى الأتربة والزغب الناتج من العمليات الجافة، والأبخرة والغازات الكيماوية الصادرة من الكيماويات العديدة المستخدمة، وأكاسيد الكبريت والنيتروجين الناتجة من الغلايات البخارية. هذه الملوثات لها تأثيرات صحية خطيرة على العمالة وتأثيرات بيئية نتيجة لصرف السوائل الملوثة للعمليات الرطبة فى المياه السطحية أو على شبكة الصرف الصحى العمومية، الأمر الذى يعمل على تخفيض الأكسجين الذائب فى المياه، وإتلاف حيويتها، وتعريض مستخدمى هذه المياه للتسمم.
لكن السؤال الذى ما بات يلاحقنى إلى اليوم، لماذا تُترك الأتربة والغازات السامة طليقة كمجرم مسلح، لماذا لا تُكَبل بفلاتر، لماذا لا تُعالج؟ كيف نسمح للهواء واهب الحياة أن يصبح قاتلا؟
رأيت على بذلاته الصوفية نتفا بيضاء وزغبا عالقا، لكن الأخرى الأصغر حجما كانت تنفذ بخبث إلى رئتيه، بدأ صدره فى الشكوى بسعال حاد تحول إلى موجات، ثم ما لبث أن تمكن منه الربو واخترقت نوباته المفاجأة حياتنا ليغيب أياما فى المشفى ويعود بعدها بابتسامة واسعة وحلوى من جيبه المسحور.
كما الأعوام الماضية، هيمن مصطلح الخسائر والأضرار على مؤتمر المناخ الذى استضافته مصر الشهر الماضى، وعرِّف الخبراء الخسائر الاقتصادية، بخسارة المنازل والأراضى والمزارع والشركات. ثم وصفوا الخسائر غير الاقتصادية، بموت الناس أو خسارة المواقع الثقافية أو فقدان التنوع البيولوجى.! لا ترصد الخسائر هؤلاء الذين يٌحملون ليموتوا فى منازلهم ليتحمل عزرائيل وحده مسئولية موتهم وتُخلى المصانع والشركات ذمتها. فى قمة المناخ لم يأت أحدهم على ذكر أبى ولا ذكر أطفاله الصغار، لم يشر أيهم إلى أمى التى انسحبت من الحياة صمتا قبل أن تتخلص من الصمت ذاته. أشاروا إلى التلوث الذى يقتل البشر ولم ينتبهوا إلى الدمار الذى يخلفه الموت واليأس الذى يسكن الهواء ويضاعف تلوثه.
تشير دراسة حديثة أجرتها شركة واسط للصناعات النسيجية بالعراق عام 2018 أن درجة خطورة الملوثات الصادرة من صناعة الغزل والنسيج تعتمد على نوعية الصناعة ومدخلاتها والطرق التكنولوجية المستخدمة فيها ومعالجة المياه الخارجة منها. وفى الدراسة الميدانية المنشورة بعنوان (تأثير برنامج هوائى على تحسين الوظائف التنفسية لعمال مصانع الغزل والنسيج) اقترح الباحث السيد صالح السيد برنامجا طموحا للحفاظ على الحالة الجسدية للعاملين بقطاع الغزل والنسيج وحماية الجهاز التنفسى من مسببات التلوث القاتلة التى تضرب صناعة الغزل والنسيج بمصر. يجادل الباحث فى دراسته الصادرة من جامعة السادات عام 2018 أن صناعة الغزل والنسيج التى دفع بها طلعت حرب فى العصر الحديث فى عام 1930 باتت مصدرا لتلوث الهواء والماء والغذاء. الأمر الذى دفعه إلى تجريب برنامج هوائى طبقه على العاملين والعاملات بمصنع الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى لخفض التلوث الهوائى فى مصانع الغزل والنسيج لتحسن الحالة الوظيفية للجهاز التنفسى للعمال والعاملات. تكشف نتائج الدراسة أن التغيير الفعلى فى الحالة الصحية لمن يعملون فى قطاع الغزل والنسيج لن يحدث إلا بتطبيق حاسم لمعايير الأمن والسلامة وباحترام القواعد الدولية المتعارف عليها لحماية العمالة. وتطبيق ما تعلنه وزارة البيئة فى إصداراتها من التزامها بحماية البيئة من التلوث الصناعى ووضع القوانين والحدود الخاصة بأنواع الملوثات التى تضر بصحة الإنسان والبيئة الطبيعية وتخصيص مفتشين للرقابـة على المنشآت والتأكد من التزامها بالحدود القانونية.
إن مصر التى تسعى لاستعادة مكانتها فى صناعة الغزل والنسيج وفى طريقها للانتهاء من أكبر مصنع غزل فى العالم بشركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة، لهى بحاجة إلى تبنى سياسات فاعلة لخفض معدلات التلوث داخل مواقع العمل لوقف نزيف البشر ونزيف الألم، وهو هدف قريب وقيد السيطرة، هدف تملكه الدولة وتملك أدواته ولا يلزمه إلا الإرادة والقرار لإنقاذ أرواح وأسر ولإعادة مصر إلى موقعها الرائد فى صناعة تشكلت فى تربتها قبل آلاف الأعوام.